بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في القادسية الثالثة ستبزغ شمس العراق

شبكة البصرة

صلاح المختار

كان خميني قد اعتكف وكاد أن يتوقف عن استقبال المسؤولين والضيوف أخذ يرى بأم عينيه مشروعه الاستعماري لغزو العراق ينهار بصورة كبيرة وواضحة منذ حرر العراق الفاو، وواصل هجومه على القوات الإيرانية في كل المناطق ملحقا بها خسائر فادحة، وكان ذلك مناقضا تماما لما كان يتوقعه خميني وصرح به علنا وهو دخول العراق والسيطرة عليه بسهولة والانطلاقة منه لوضع اليد على دول الخليج العربي ثم السعودية، وهكذا يشكل قاعدة انطلاق قوية لغزو بقية الأقطار العربية وغير العربية، تحقيقا لما أسماه (نشر الثورة الإسلامية في كل مكان)، ولكن خميني وقع صريع الكآبة وانتابته هواجس وكوابيس وهو مستيقظ، وأكثر الكوابيس والهواجس قتلا هي التي تتجمع غيوم سود فوق الرأس اثناء اليقظة!

 

جاء هاشمي رفسنجاني وقال أريد أن أقابل الإمام، وادخل عليه وجده مهموما معبّسا وجهه يبدو مندسا تحت أخاديد وتعرجات كأنها نبتت فجأة! قال لخميني: مولاي جئتك لأصارحك بحقيقة ما يجري، نحن نخسر الحرب بسرعة، وجيشنا انهار ولم يبقى لدينا جيش! ولم نعد نستطيع ان نقاوم غزو العراق، وإذا بقينا نرفض وقف إطلاق النار فغدا أو بعد غد سيصل جيش صدام إلى طهران ومعه عصابات المنافقين (ويقصد جماعة مجاهدي خلق)، وعند ذاك سنرى الكوارث والمآسي التي لا يمكن تصورها، نظر خميني إلى رفسنجاني بصمت ونكس راسه قليلا، كأن في داخل رأسه خفافيش تحلق وتصدر اصواتا تمزق اوعية دماغه وتجعله عاجزا عن التركيز، وكان يبدو كأنه يلوك شيئا في فمه، عاد رفسنجاني ليسأل: مولاي ماهي توجيهاتكم؟

 

أبعد خميني عينيه عن وجه رفسنجاني وحملق في الفراغ وقال: إنني أقبل وقف إطلاق النار ولكن ليكون معلوما للجميع إنني عندما أتخذت تجرعت وسما زعافا! ثم نظر إلى رفسنجاني وكانت عيناه جمرتا نار متقدة، وقال له: هل لديك شيء آخر معي؟ قال رفسنجاني نعم يا مولاي أقترح عليك أن تصارح القادة بهذا القرار لأنني لا أستطيع أن أبلغهم به لخطورته وحساسيته. اجتمع قادة الحرس الثوري الإيراني ظهر الخميني وجلس ووجهه مازال مدفونا تحت حفر وسواق سود لم تكن موجودة سابقا فيه، ساد صمت قاتل لأن خميني لم يتحدث عندما دخل، نظر إليهم ونقل بصره بين أفراد منهم، والصمت يبدو طرقا في صواني نحاس! تنحنح وبدأ مترددا حائرا ثم استجمع قواه وقال: انا ومن اجل مصلحة ايران وشعبها وتقديرا لتضحياته وحرصا مني على مستقبل شعبنا أقبل وقف إطلاق النار وقراري هذا هو تجرع لسم زعاف! ولم يتحمل البقاء فانسحب إلى غرفته، بينما تفجرت اصداء النحيب والبكاء واخذت تضرب جدران القاعة كأنها تريد الخروج منها! اصوات النحيب والبكاء تشق طبلات الأذان! كل القادة من الحرس وغيرهم يصرخون كالأطفال الذين فقدوا أمهم وهم في سوق مزدحم!

 

وكانت الكاميرات تسجل هذا المنظر الغريب المناقض لكل ما شاهدته إيران بعد انقلاب خميني، في تلك اللحظات كان اليأس هو السيد، وكان البكاء هو الكلام الوحيد، وكان العجز عن الحديث هو الخيار الأوحد، وكان الضياع هو الوصف الانسب لحالة قادة ايران! ومن بين هؤلاء كان يجلس شاب مقاتل من قادة الحرس الثوري اسمه قاسم سليماني، وكان يبكي كطفل جسده يرتعش مثل ورقة شجرة تسقط من غصنها فتتلاعب بها الرياح العاتية! الدموع تسيل من عينيه انهارا كأنما فقد أمه وأبوه وأبنائه! كانت لحظات صدمة كارثة، فكل الأحلام التي روجوها لمدة تسع سنوات منذ استلم خميني الحكم تبددت، فلا غزو للعراق نجح ولا نشر لما سمي بالثورة الإسلامية تحقق، والذي حصل عكسه تماما، حيث دمر جيش إيران تدميرا شاملا، وانهار اقتصادها بالكامل، وتمزقت صفوفها شر ممزق!

 

كان الإسم الذي يطوف فوق رؤوس الجميع في تلك القاعة هو صدام حسين، كان شبحه ينتزع ارواح قادة ايران بقوة تمزق وعيهم! في تلك اللحظات انقلبت الصورة في أذهانهم فبعد أن كانوا واثقين من القدرة على إسقاط صدام حسين أصبحوا واثقين من أن صدام حسين قد كبل أياديهم واستولى على طريقة تفكيرهم، ويجرهم كعبيد وقعوا في الاسر! خرج رفسنجاني هائما على وجهه لا يعرف ماذا يفعل ولا يريد أن يقابل أحد، فحتى افراد عائلته رفض الحديث معهم عندما دخل البيت واعتزل في غرفته متأملا حزينا يائسا، تكدست عليه السنون فجأة فبدا أكبر من سنه بعشر سنوات، أغلق باب غرفته وأجهش بالبكاء، فالأحلام ضاعت، وامبراطورية فارس التي حلموا بها وروجوا لها لم تعد ممكنة، والحرب التي شنوها على العراق من أجل غسل عار القادسية الأولى التي هزموا فيها شر هزيمة أمام العرب تحولت إلى هزيمة أكبر في قادسية صدام من هزيمة القادسية الأولى، الصورة التي لا تفارق ذهن رفسنجاني وقادة إيران هي صورة صدام حسين وإسمه.

 

ويقول أحد الشهود الذين حضروا في تلك القاعة بعد أن خرج منها بأنه شهد لأول مرة هزيمة الأمة الفارسية بطريقة مهينة، خصوصا وأن الأمل في نهوضها مجددا قد انهار ومحيي من الذاكرة. ولكن هذا الأمل بإقامة إمبراطورية فارس سرعان ما عاد يداعب مخيلة قادة إيران فبعد أن مات تخميني قهرا وكمدا، جاءهم حبل الإنقاذ من أمريكا مرة أخرى حيث بدأت اتصالات جديدة ومفاوضات في أكثر من مكان، لتعيد بناء القوة الإيرانية وفي مقدمتها إعادة بناء الجيش والمعنويات لدى قادة إيران كي لا يتخلوا عن المشروع القومي الفارسي والذي يقوم على أساس غزو الأقطار العربية وتحطيمها، وهكذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا كثفتا اتصالاتهما بقادة إيران وقدمتا لهم الضمانات، ورفعت معنوياتهم كي يعودوا إلى استئناف مخطط خميني ولكن بأسلوب آخر.

 

تراجع خامنئي الذي حل محل خميني عن رفع شعار نشر الثورة الإسلامية، واستعاض عنه ببناء تنظيمات أقوى تابعة لإيران في الأقطار العربية خصوصا في العراق، وتم ذلك بدعم أمريكي مباشر، وقدمت التكنولوجيا والأموال الضخمة لإعادة بناء القوة الإيرانية لأجل أن تستعد لصراعات جديدة يكون هدفها إسقاط النظام الوطني في العراق. وبما أن خميني وأمثاله ورغم كل ما امتلكوه من قوة فائقة وقتها قد فشلوا في إسقاط النظام، فإن الخيار الأمريكي أصبح إنهاء (سياسة الحرب بالنيابة) التي اعتمدتها أمريكا في المنطقة طوال عقود وتبني (سياسة الحرب بالإصالة) أي أن أمريكا تخوض الحرب بقوتها هي وليس بقوة إيران أو إسرائيل كما فعلت في العقود السابقة، فالعراق القوي يستطيع أن يدحر أي قوة إقليمية أخرى.

 

وهكذا تبلورت فكرة أن تقود أمريكا بنفسها معسكرا ضخما يضم 40 دولة كبرى وصغرى ومتوسطة بجيوشها وباقتصادها وبكل ما تملكه من طاقات لإسقاط النظام الوطني في العراق، ومساعدة النظام الإيراني الجديد الذي يرأسه خامنئي على العودة لبناء الإمبراطورية الفارسية، وهكذا بدأ التآمر يأخذ شكلا جديدا بالتنسيق بين نظام خامنئي وأمريكا. ونسجت خيوط مؤامرة الكويت!

 

في القادسية الثانية ردمت الفجوة مع القادسية الأولى وهي فجوة انهيارات العرب وتراجعاتهم وضعفهم ووقوعهم تحت تأثيرات دولية وإقليمية، في القادسية الثانية زرعت فكرة أن العرب قادرون على النصر وتحقيق الأهداف الوطنية والقومية وأن الغرب والصهيونية وإيران قد فشلت في إلحاق الهزيمة بالنظام الوطني أثناء الحرب التي شنها خميني ودامت ثمانية أعوام فتولدت قناعة عامة بأن المستقبل للعرب وان بإمكانهم أن ينهضوا ويتوحدوا ويزيلوا آثار التخلف ومراحل التبعية للآخرين، وبين هذا النهوض العربي وبين المخططات الأمريكية والصهيونية وبالتنسيق مع بلاد فارس رسمت صورة أخرى لمستقبل العراق والأمة العربية رأيناها في غزوه وتدميره تدميرا شاملا على يد الولايات المتحدة الأمريكية ثم سلمته لإيران في عام 2011 ليكمل التدمير الشامل للعراق!

 

ونحن نحتفل بذكرى يوم الأيام يوم النصر الخالد في قادسية صدام المجيدة يجب أن نتذكر كل ذلك وأن نعيد بناء كل أفكارنا وتصوراتنا وخططنا لنضع ستراتيجة تفضي إلى نهوضنا مجددا مهما بلغت كوارثنا ووصل ضعفنا، فالشرارة مهما صغرت هي التي تشعل الحريق، والنصر يبدأ بالامساك بتلك الشرارة كي نشعل الحريق وننطلق مجددا في القادسية الثالثة لتحقيق الإنتصار على كل المحتلين مهما كانت أسمائهم. سيعود العراق قويا عزيزا منتصرا، وبقوة البيئة التي سيخلقها ستنتصر امتنا العربية.

Almukhtar44@gmail.com

8-8-2024

شبكة البصرة

الجمعة 5 صفر 1446 / 9 آب 2024

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط