بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الصهيونية: نهاية وهم‏ (1-2)؛

شبكة البصرة

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

‏‏ريتشارد إي روبنشتاين‏ - (كاونتربنش) 2024/7/19

كانت للصهيونية، كحركة قومية وسياسية، آثار عميقة على أقدارنا في الشرق الأوسط، وخاصة الفلسطينيين والمنطقة العربية الأوسع. وتكشف أصولها وتنوعها الأيديولوجي وعواقب تنفيذها عن نسيج معقد من الطموحات والصراعات والتحولات التي كانت كلها مزعزعة لاستقرار الإقليم.

‏ظهرت الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر كرد فعل على "معاداة السامية" والاتجاهات الاضطهادية واسعة النطاق التي واجهها اليهود في أوروبا. وسعت الحركة إلى إقامة "وطن لليهود"، حيث يمكنهم العثور على ملاذ وممارسة تقرير المصير. ودعا تيودور هرتزل، الذي غالبا ما يُنظر إليه على أنه والد الصهيونية السياسية الحديثة، إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين، التي كانت آنذاك جزءا من الإمبراطورية العثمانية، كما شرح في عمله الأساسي "الدولة اليهودية" (1896). وكانت رؤية هرتزل علمانية وسياسية إلى حد كبير، مع التركيز على الجوانب العملية لبناء الدولة، كما تصورها.‏

ومع مرور الوقت، ‏تطورت الصهيونية لتنجب مدارس فكرية مختلفة، لكل منها رؤيتها المتميزة ل-"الدولة اليهودية" وعلاقتها بالأرض وسكانها.‏

أكدت مدرسة "الصهيونية السياسية‏" التي مثلها هرتزل نفسه، على هدف إقامة دولة يهودية من خلال الوسائل الدبلوماسية والسياسية. وسعى الصهاينة السياسيون إلى الحصول على اعتراف ودعم دوليين، حيث حققت مساعيهم إنجازات رئيسية مثل وعد بلفور (1917) وخطة تقسيم الأمم المتحدة (1947).‏

وتجذرت "‏الصهيونية العمالية‏‏" في المبادئ الاشتراكية، وتصور هذا الشكل من الصهيونية الدولة اليهودية كنموذج للعدالة الاجتماعية، بتركيز على المستوطنات الزراعية الجماعية (الكيبوتسات) وحقوق العمال. وكان قادة مثل ديفيد بن غوريون وحاييم وايزمان شخصيات محورية في هذه الحركة التي هيمنت على سياسة الكيان المبكرة وتشكيل الدولة.‏

وثمة "‏الصهيونية التصحيحية‏‏"، التي أسسها زئيف جابوتنسكي، والتي اتخذت موقفًا أكثر تشددًا، ودعت إلى تأسيس دولة يهودية على جانبي نهر الأردن وأكدت على القوة العسكرية. وأدت هذه المدرسة إلى ظهور فصائل يمينية متطرفة، مثل "الإرغون"، وأثرت لاحقًا على أيدولوجية "حزب الليكود" الذي لعب دورًا مهمًا في صياغة سياسات الكيان.‏

وبرزت بشكل خاص "‏الصهيونية الدينية" التي تدمج المعتقدات الدينية اليهودية التقليدية مع الأيديولوجية الصهيونية، وترى أن إنشاء دولة "إسرائيل" هو جزء من خطة إلهية. وأدى فكر هذه المدرسة إلى نمو حركة المستوطنين في الأراضي المحتلة، مدفوعة بالإيمان بالأهمية الدينية للأرض.‏

وأخيرًا، هناك "‏الصهيونية الثقافية" التي روجت لها شخصيات مثل آحاد هعام، والتي ركزت على إحياء الثقافة اليهودية واللغة العبرية، ورؤية الدولة اليهودية ليس ككيان سياسي فحسب، وإنما كمركز ثقافي وروحي لليهود في جميع أنحاء العالم.‏

‏كان لتنفيذ الأهداف الصهيونية، خاصة وفق الرؤيتين، السياسية والتصحيحية، تأثير مدمر على الفلسطينيين بشكل خاص. وأدى قيام دولة الكيان الصهيوني في العام 1948 إلى النكبة، حيث هجرت العصابات الصهيونية أكثر من 700.000 فلسطيني، ودمرت قراهم، ومزقت مجتمعهم. وأدت الصراعات التي تلت ذلك بين الكيان والعرب، خاصة حرب "الأيام الستة" في العام 1967، إلى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، لتتفاقم معاناة الفلسطينيين بسبب الاحتلال العسكري والتوسع الاستيطاني والمصاعب الاجتماعية والاقتصادية.‏

‏أدى التوسع المستمر للمستوطنات الإسرائيلية، الذي تبرره أيديولوجيات الصهيونية الدينية والتصحيحية، إلى مصادرة أراضي الفلسطينيين، وتقييد حركتهم، والانتهاكات المنهجية لحقوقهم الإنسانية. وتعثرت ما تُسمى "عملية السلام" التي بدأت ب-"اتفاقات أوسلو" في تسعينيات القرن العشرين، حيث ظل الفلسطينيون يواجهون التهجير المستمر، والحصار الاقتصادي (وخاصة في غزة)، ومحدودية السيادة.‏

و‏بطبيعة الحال، امتد تأثير الصهيونية إلى خارج حدود فلسطيني ليقلب التوازن الجيوسياسي للمنطقة العربية بأكملها رأسًا على عقب. وأدى نشوء الكيان وتوسعه، بدعم من القوى الاستعمارية الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، إلى تفاقم التوترات الإقليمية. وواجهت الدول العربية، التي اتحدت في البداية في معارضة الكيان انقسامات داخلية، وتحالفات متغيرة، واستجابات متباينة للقضية الفلسطينية.‏ وأجبر وجود الكيان القويّ المدعوم من الغرب بعض الدول العربية على إعادة تقييم استراتيجياتها السياسية والعسكرية، مما أشعل الحروب وغير التحالفات، (على سبيل المثال، معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل للعام 1979) كنتيجة ل-"حرب تشرين"، ومؤخرًا، اتفاقيات التطبيع مثل "اتفاقيات إبراهيم". وغالبًا ما أعطت هذه التطورات الأولوية لمصالح الدولة كما رآها حكامها على التضامن مع الفلسطينيين، مما أدى إلى استجابة عربية مجزأة.‏

‏كما وفر الصراع المستمر بين الفلسطينيين والاستعمار الصهيوني حافزًا لظهور الحركات المتشددة داخل المنطقة، التي انحرفت بوصلتها في كثير من الأحيان لتتسبب في عدم الاستقرار والعنف. وقد أعاق اختلال التوازن الذي خلقه وجود كيان عسكري قوي وعالَم عربي منقسم (جزئيًا على الأقل بسبب الكيان) آفاق التكامل الإقليمي والأمن الجماعي، وقوض الجهود الرامية إلى خلق شرق أوسط متماسك ومستقر.‏

يتجاوز التأثير السلبي الذي أحدثته الصهيونية في الشرق الأوسط تأثير أي أيديولوجية توصف بأنها "متطرفة" في المنطقة. كانت الصهيونية، كحركة قومية أدت إلى إنشاء وتوسيع كيان استعماري-استيطاني-إحلالي، بلا شك أهم عامل في كتابة التاريخ الحديث للشرق الأوسط. ومن الغريب أن الكثير من التركيز قد وُضع، عالميا وعربيا، على ما وصفت بأنها أيديولوجيات متطرفة، في حين أنها لم تكن ذات أي خطورة تُذكر مقارنة بتأثير وديمومة الأيديولوجية الصهيونية ممثلة في الكيان الاستعماري في فلسطين.

‏في حين كان نشاط المنظمات المتطرفة في المنطقة مؤقتا ومحدودا وأمكن احتواؤه، أدى تنفيذ الأهداف الصهيونية إلى تداعيات كبيرة وطويلة الأمد في الشرق الأوسط. أدى نشوء الكيان في العام 1948 إلى نكبة شعب عربي كامل وتجريده من أرضه وتهجيره لتعيش أجياله في المنافي منذ أكثر من ثلاثة أرباع قرن، وعطل مجتمعه واقتصاده واستمراريته الثقافية. وبالإضافة إلى التهجير الجماعي، أدى احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية منذ العام 1967 إلى إخضاع ملايين الفلسطينيين للحكم العسكري، والقيود على الحركة، والانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان. وكان الصراع العربي مع الكيان مصدرًا دائمًا للتوتر الإقليمي، وأدى إلى العديد من الحروب والمناوشات العسكرية. وأدى الصراع إلى استقطاب السياسة الإقليمية، والتأثير على التحالفات، وتأجيج سباقات التسلح، وتوتير العلاقات الداخلية بين الشعوب وأنظمتها الحاكمة. وأدى الصراع إلى إجهاد اقتصادات الدول العربية المجاورة، وتحويل الموارد إلى الإنفاق العسكري ودعم اللاجئين. كما ساهم في إدامة الاضطرابات الاجتماعية بطرق أعاقت التنمية والاستقرار.‏ ‏

‏شكلت الصهيونية، بأشكالها المختلفة، منطقتنا بعمق بحيث عوضت تقريبًا الدور التخريبي للاستعمارات المباشرة. وكانت التداعيات الإجمالية لكل مدارسها النزوح والصراع وعدم الاستقرار الإقليمي. ولا شك أن الاعتراف بدور الكيان التخريبي في المنطقة هو الذي ينبغي أن يوجه السياسات العربية بطريقة أكثر إدراكًا لمصالح الأمة والمنطقة، وتخيلها من دون الكيان الصهيوني وما يمثله.

 

الصهيونية: نهاية وهم

لعل واحدة من أغرب الحجج التي يقدمها أصدقاء إسرائيل المعينون ذاتيا هي أن معاداة الصهيونية شكل من أشكال معاداة السامية. وهذا التأكيد مفهوم إذا كان الشخص الذي يقدّمه يعتقد أن الله نفسه أعطى اليهود حقوق ملكية الأرض من النهر إلى البحر -لكن ثيودور هرتزل ومؤسسي الصهيونية الحديثة لم يتبنوا مثل هذا الاعتقاد. كان ما فكروا فيه هو العكس؛ فقد عرفت قيادة تلك الحركة، العلمانية إلى حد كبير، الصهيونية منذ البداية باعتبارها شكلا من أشكال القومية العرقية -التي تطالب بنفس "حق تقرير المصير" الذي أكد عليه الأيرلنديون أو الصرب في نضالاتهم، على سبيل المثال. وبذلك، فإن الحجة هي أنه من المعادي للسامية حرمان اليهود (الذين يُعتبرون مجتمعا عرقيا وليس مجموعة طائفية) من نفس الحق المزعوم الذي يتمتع به الأيرلنديون والصرب. وإذا تناسينا في الوقت الحالي حقيقة أن حفنة فقط من الشعوب العرقية في العالم البالغ عددها 3.000 أو نحو ذلك تتمتع بالحق في السيطرة على دولة قومية، يبقى السؤال: ما علاقة الصهيونية باليهودية؟‏

الجواب موجود في التاريخ وليس في النصوص المقدسة. فقد أدى صعود معاداة السامية الجماعي في أوروبا، والذي بلغ ذروته في كارثة الهولوكوست التي لا يمكن تصورها، إلى إقناع العديد من اليهود بأن البديل عن الاستسلام لمرتكبي الإبادات الجماعية هو محاربتهم، وأن أفضل طريقة لمحاربتهم هي أن يسيطر اليهود على موارد دولتهم القومية الخاصة. ولم يتم تصور إسرائيل على أنها وسيلة لردع -أو الهروب من- الهتلرات المحتملين فحسب، بل أيضًا لضمان أن اليهود "لن يذهبوا أبدا مرة أخرى" إلى حتفهم بلا حول ولا قوة، أو يضطرون إلى التوسل إلى الدول الأكثر أمانًا لقبولهم فيها. ولو كانت الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى قد رحبت باللاجئين اليهود والناجين منهم في أربعينيات القرن العشرين بدلا من إغلاق أبوابها في وجوههم، لكان قد تبدد قدر كبير من الضغط لإنشاء دولة يهودية. وقد أفضت حقيقة أن تلك الدول لم تستقبلهم، ولا حتى في ظل وجود غرف الغاز، إلى إقناع الكثير من اليهود بأنهم في حاجة إلى اللعب بورقة القومية إذا كانوا يرغبون في ضمان بقائهم.‏

ومع ذلك، ولد هذا التسويغ سؤالا آخر. وخلق معضلة. في عالم الدول القومية المتنافسة التي تأكل بعضها بعضًا، لا تنجو الدول وتزدهر ما لم تكن إما معزولة ولا تشكل تهديدا، أو حربية وقوية. ونظرا للأهمية الجيوسياسية للشرق الأوسط الغني بالنفط، والنمو السريع للقومية الفلسطينية والعربية، وطموحات أميركا الإمبريالية، كان من الواضح حتى قبل العام 1948 أن إسرائيل لن تكون معزولة أو غير مؤذية. كانت الصراعات العنيفة بين المستوطنين اليهود والفلسطينيين مستوطِنة منذ أواخر عشرينيات القرن العشرين، ولم تقبل حتى دولة عربية واحدة بخطة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة في العام 1947. وبالنظر إلى شدة هذه المعارضة، كيف يمكن لدولة تقدِّم للمقيمين اليهود والمهاجرين المحتملين منهم معاملة تفضيلية أن تصبح حربية وقوية بما يكفي للبقاء على قيد الحياة؟‏

تم اقتراح الإجابة من خلال تشكيل فيلق يهودي في الحرب العالمية الأولى ولواء يهودي في الحرب العالمية الثانية، قاتلا في فلسطين وسورية كوحدات من الجيش البريطاني. وعندما حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا كقوة مهيمنة في المنطقة، أصبحت إسرائيل حليفًا للولايات المتحدة، وأصبحت قواتها المسلحة امتدادًا فعليًا للقوة العسكرية الأميركية. ومنذ العام 1948 فصاعدا، لم تتلق أي دولة عميلة أخرى أي شيء يقترب من المساعدات العسكرية والمدنية التي تبرعت بها زعيمة "العالم الحر" لإسرائيل. ومن المُفارق -والمأسوي- أن الدولة التي تم إنشاؤها لتأسيس الاستقلال والأمن اليهودي كانت منذ البداية تبعية استعمارية جديدة وبؤرة أمامية استيطانية إمبريالية للولايات المتحدة.‏

‏ولم تكن هذه وصفة صالحة، لا للسلم الداخلي ولا للأمن الدولي. منذ العام 1945، وباعتبارها هدفا للشعوب المضطهدة الثائرة والقوى العظمى المنافسة، خاضت الولايات المتحدة خمس حروب كبرى، وشاركت في عشرات الصراعات الدموية بالوكالة. ووفقا ل-"مشروع تكلفة الحرب" في جامعة براون، فإن الحروب الأميركية منذ هجمات تنظيم القاعدة في العام 2001 قتلت 4.5 مليون شخص، معظمهم من المدنيين. وفي الفترة نفسها، خاضت دولة إسرائيل ست حروب بين الدول وثلاث حروب في غزة. ومن المعتاد لدينا في الغرب أن نعزو هذا الشعور المستمر بانعدام الأمن والعنف إلى خبث وتعصب رعايا إسرائيل الفلسطينيين وجيرانها المسلمين -وهو "تفسير" متحزب يتجاهل الأصول النيو-كولونيالية للدولة اليهودية، وطردها وقمعها للفلسطينيين، وخدمتها المخلصة للرعاة الأميركيين والأوروبيين. ولكن، مهما تكن مصادر انعدام الأمن الإسرائيلي، فإن النتيجة مع مرور الوقت كانت تعزيز موقف الصهاينة المتشددين "الصلبين" في مواجهة الصهاينة "الناعمين".‏

 

الصهيونية: "صلبة" و"ناعمة" ‏

‏منذ أواخر القرن التاسع عشر، عندما تبلورت الصهيونية الحديثة واتخذت شكلًا، كانت محاولات الجمع بين اليهودية والقومية العرقية تميل إلى توليد ثلاث مدارس فكرية. ويمكننا أن نسمي هذه المدارس: الصهيونية المتشددة (الصلبة)؛ والصهيونية الناعمة، ومعاداة الصهيونية.‏

يُمثل المدرسة الصهيونية الصلبة حاليا نظام نتنياهو في إسرائيل -وهو ائتلاف يميني حاكم يضم الأحزاب الدينية اليهودية الرئيسية، والأحزاب التي تمثل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ودعاة ضم جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويَفترض المنظور الذي يشكل وجهات نظرهم السياسية وجود تضارب جدّي، طويل الأجل وغير قابل للتوفيق في المصالح والقيم بين اليهود وغير اليهود. كما أنه يقبل الاستمرارية التي لا مفر منها لبيئة عالمية "نيو-داروينية"، لا تعيش فيها سوى الجماعات والأمم الأكثر عنفًا. ومنذ عهد فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي، مؤسس هذه المدرسة، كان المعنى الضمني هو أن بقاء اليهود يتطلب وجود دولة يسيطر عليها اليهود، قادرة على الهيمنة على الأعداء الداخليين والخارجيين عسكريا.‏

‏ثمة شعور متطرف بانعدام الأمن الجماعي ظل يشكل دائمًا القوة الدافعة ل-"الصهيونية الصلبة". وقد اعتبر جابوتنسكي اليهود "عرقًا" مهددًا ديموغرافيًا بالزواج المختلط والاندماج الاجتماعي، وكذلك معرضًا للخطر جسديا من قبل المعادين للسامية. وأُعجب الزعيم المنحدر من أوديسا، أوكرانيا، بتشدد موسوليني الفاشي، وألبس ميليشياته الخاصة قمصانًا بنية اللون، ودعا إلى إنشاء "جدار حديدي" من القوة المسلحة يحمي إسرائيل من الهجمات الحتمية التي يشنها القوميون العرب المعادون. ووافق على استخدام العنف الإرهابي ضد البريطانيين والفلسطينيين، ورفض تقسيم الأمم المتحدة لفلسطين إلى دولتين، وسخر من فكرة أن اليهود والفلسطينيين يمكن أن يتعايشوا بسلام، ما لم يقبل الأخيرون بالتفوق اليهودي في دولة يهودية واحدة. وكان والد نتنياهو سكرتيرًا لجابوتنسكي، وما يزال ائتلاف بنيامين يتبع خطه العنصري العرقي التفوقي.‏

‏من ناحية أخرى، بدأت الصهيونية "الناعمة"، التي تعكس أفكارُها أصولَها اليسارية الليبرالية، بالتعبير عن شعور أقل حدة إلى حد ما بالضعف اليهودي، ووجهة نظر أكثر تفاؤلاً إلى حد ما بإمكانية التعايش السلمي مع غير اليهود. ويعكس تاريخ عائلتي الخاصة هذا المنظور. من منزلهما في إحدى ضواحي نيويورك، عرفَ والداي عن المحرقة من شهود موثوقين، وحاولا عبثًا إقناع الأميركيين الآخرين بأن المذبحة كانت تحدُث فعلاً، ثم عملا بحماس لإقامة وطن لليهود في إسرائيل. ومن خلال العمل مع عملاء إسرائيليين مثل تيدي كوليك، رئيس بلدية القدس المستقبلي، ساعد أبي في تجديد سفينة شحن قديمة أعيدت تسميتها باسم "الخروج" Exodus لنقل الناجين الأوروبيين إلى فلسطين. وفي العام 1948 قام بنقل البنادق إلى الجيش اليهودي، "الهاغاناه". وأصر هو ورفاقه على أن عدو إسرائيل الحقيقي ليس الفلسطينيين أو غيرهم من العرب الذين ضلَّلهم قادتهم، وإنما المستعمرين البريطانيين غير المبالين والشيوخ العرب الأثرياء المتعطشين للسلطة.‏

‏رحب الصهاينة الناعمون مثل والدي بخطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة واعتقدوا أن العمال اليهود والعرب يمكنهم العيش معًا بسلام تحت رعاية نظام ديمقراطي-اجتماعي. وكان إيمانهم هو أن إسرائيل يمكن أن تكون دولة يهودية وديمقراطية تعددية، وأن الحاجة إلى الهيمنة العسكرية ستكون مؤقتة. وعندما شن الفلسطينيون والدول العربية المجاورة حربا ضد إسرائيل في العام 1948، اهتز هذا الإيمان، لكنه لم يتحطم. وخلال تلك الحرب، شردت القوات والميليشيات الإسرائيلية نحو 750 ألف فلسطيني ودمرت أكثر من 500 قرية. وبحجة أن اللاجئين الفلسطينيين غادروا أراضيهم طواعية، (على عكس الأدلة المعاكسة الوفيرة)، رفضت الدولة الجديدة إما إعادة قبولهم أو تعويضهم عن خساراتهم. وتعززت الأغلبية اليهودية في إسرائيل على مدى العقدين التاليين بهجرة كبيرة من العالم العربي ومن روسيا –في تطبيق ل-"حق العودة" الممنوح حصريًا لليهود. ولكن، بعد "حرب الأيام الستة" في العام 1967، وجد الإسرائيليون أنفسهم مرة أخرى وهم يسيطرون على أكثر من مليون فلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة والقدس الشرقية. وعندئذ، أصبحت الكيفية التي يمكن بها لإسرائيل أن تكون دولة يهودية وديمقراطية مرة أخرى موضع تساؤل، إلى جانب السؤال ذي الصلة حول التناقض العميق بين القومية العسكريتارية والأخلاق اليهودية.‏

‏كان الجواب الصهيوني الناعم الذي ظهر على مدى الجيل التالي هو الدعوة إلى إقامة دولة فلسطينية؛ دولة لا تهدد السيطرة اليهودية على إسرائيل، سواء كان ذلك ديموغرافيًا أو عسكريًا. ولطالما نُظر إلى الدولة التي تنشأ في الضفة الغربية وقطاع غزة (وربما القدس الشرقية) على أنها كيان منزوع السلاح بسلطات محدودة تُجبَر، كشرط لوجودها، على قبول التفوق العسكري والاقتصادي الإسرائيلي. وليس من المستغرب أن هذه الفكرة لم تلق شعبية في "الشارع" الفلسطيني أو بين الجماعات التي تسعى إما إلى تحقيق المساواة مع اليهود الإسرائيليين أو طرد اليهود من المنطقة جملة وتفصيلًا. وعلى مدى العقود الثلاثة التالية، راوحت أغلبية كبيرة من الصهاينة الناعمين، مثل رئيسي الوزراء إسحاق رابين وشمعون بيريز، بين جزرة مفاوضات السلام (حل الدولتين) وعصا الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي ضد المقاومين. وبمرور الوقت، أصبحت العصا أكثر استخداما من الجزرة.‏

كانت ذروة الإنجاز الصهيوني الناعم هي "اتفاقات أوسلو" في العام 1993 التي وافق فيها الفلسطينيون بقيادة ياسر عرفات ومنظمته "فتح" على الاعتراف بإسرائيل والعيش بسلام مع مواطنيها، بينما وافق الإسرائيليون، بقيادة صهاينة "حزب العمال"، رابين وبيريز، على الاعتراف بالسلطة الوطنية الفلسطينية والسماح لها بحكم الضفة الغربية وغزة بحلول العام 2000. وقد أثارت تلك الاتفاقات آمالاً كبيرة، لكنها فشلت في التعامل مع سلسلة من القضايا الحاسمة، بما فيها استمرار الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وحق العودة المؤكد للاجئين الفلسطينيين، ووضع القدس الشرقية.‏

‏‏بالإضافة إلى ذلك، عارضت قطاعات كبيرة من كلا المجتمعين، والتي تأثرت بشكل متزايد بالمنظمات الدينية والقادة الدينيين المسيسين، الاتفاق ورفضت بذل المزيد من الجهود للتوصل إلى تسوية. وفي الفترة ما بين أيلول (سبتمبر) 2000 وشباط (فبراير) 2005 قُتل حوالي 3.000 فلسطيني و1.000 إسرائيلي في انتفاضة أطلق عليها الفلسطينيون اسم "انتفاضة الأقصى". وفي حين نفذت منظمات مثل "الجهاد الإسلامي" و"كتائب شهداء فتح" تفجيرات انتحارية في إسرائيل، ضاعف الصهاينة المتشددون حجم المستوطنات في الضفة الغربية وتعهدوا بعدم مغادرة "يهودا والسامرة". واغتال أحد هؤلاء القوميين المتطرفين، باروخ غولدشتاين، 29 مصليًا مسلمًا في الحرم الإبراهيمي في العام 1994، واغتال آخر، يغئال عمير، رئيس الوزراء، رابين، بعد عام.‏

ثم بعد عام آخر، في العام 1996، أصبح بنيامين نتنياهو رئيسًا لوزراء إسرائيل، مؤذنًا ببداية نهاية هيمنة الصهيونية الناعمة في إسرائيل. وسوف يحكم مرة أخرى من 2009-2021 بينما أصبحت حركة المستوطنين في الضفة الغربية طوفانًا، وسوف ينتهي به المطاف إلى تشكيل الحكومة اليمينية الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل. في الممارسة العملية، قبل الصهاينة من كلتا المدرستين مبدأ "الجدار الحديدي" الذي وضعه جابوتنسكي، والذي بدا لهم السبيل الوحيد لتأمين وجود إسرائيل آمنة مع أغلبية يهودية دائمة. وفي الوقت نفسه، كانت الجماعات الفلسطينية تتعلم عدم الثقة في التظاهر الصهيوني الليبرالي بالإيمان بحل الدولتين أو بحسن نوايا السلطة الفلسطينية، التي بدت أنشطة حكمها في الضفة الغربية ليست أكثر كثيرًا من ورقة توت تغطي سوأة توسيع المستوطنات الإسرائيلية واتخاذ تدابير أمنية قاسية. وألقى كل جانب باللوم على الآخر في فشل المفاوضات السابقة، وتبددت الثقة التي أقنعت ذات مرة بعض أعضاء مجموعات النخبة من الطرفين بالتعامل مع بعضها البعض بطريقة غير عنيفة.‏ (يُتبع)

--------

*ريتشارد إي روبنشتاين Richard E. Rubenstein: مؤلف وأستاذ جامعي متخصص في حل النزاعات والشؤون العامة في جامعة جورج ماسون. ولد في 24 شباط (فبراير) 1938، وكتب على نطاق واسع عن العنف السياسي وحل النزاعات، ومن أبرز أعماله كتاب "خيميائيو الثورة: الإرهاب في العالم الحديث" Alchemists of Revolution: Terrorism in the Modern World. وهو أيضًا مدير سابق لمدرسة كارتر للسلام وحل النزاعات وتخرج من كلية هارفارد.

*نشر هذا المقال تحت عنوان: Zionism: the End of an Illusion

الغد الاردنية

شبكة البصرة

الخميس 26 محرم 1446 / 1 آب 2024

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط