بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ثورة العشرين... صفحات وطنية نبيلة

شبكة البصرة

د. شاكرعبد القهار الكبيسي

بمزيد من الأسى والألم نرى البعض منّا يتناول القضايا التأريخية والوطنية وفق مزاجات وأحكام مُسبقة تضيع في دوامتها حقائق التأريخ ومواقف الرجال وتفترق فيها المسالك وتضيع فيها إتجاهات الخنادق خاصة عندما تصدر هذه الأحكام من رجال دين أو من أحزاب تتخذ من الدين شعارات سياسية لا تلتقي مع قيم الدين وأحكامه بصلة لأننا حينما نفكر في إستحضار القوى الفاعلة في مجتمعنا لوجدنا انّ التراث الديني يأتي في مقدمة هذه القوى وأشدها فعالية لأنه هو القادر الروحي والجامع للمواقف والموجه للطاقات والباعث في النفوس الهِمّة والحماس والتضحية والإقدام وكلما توحدت التوجهات تألقت الأحداث وتفجرت المغانم ثم يأتي بعد التراث الديني الأدراك بقيمة الوحدة الوطنية في جميع المنعطفات التأريخية والذي يجب أن يكون غا لِباً وحاضراً بقوة في سلوكنا وتفكيرنا وهمّتنا ووجودنا كما أنّ عمق العلاقات الوطنية العراقية وسموّها يجب أن يعكس تعاوناً وثيقاً ومصيراً مشتركا وفهماً جامعاً في المحن فوحدة الشعب وقواه الوطنية كانت حاضرة قبل قيام ثورة العشرين فكان الجميع الكردي والعربي والمسيحي والصابئي واليزيدي والتركماني والآشوري تحت مظلة واحدة في أنتفاضاته الوطنية في كردستان العراق وخاصة في المدن الكبرى في السليمانية وأربيل وكركوك ودهوك والعمادية للفترة من 1916- 1920م إضافة الى قوة حركات التمرد الكردية المتعددة ضد الوجود الأجنبي والتي كان من أبرز قادتها محمدالبرزنجي رحمه الله التي أيقضت الشعور الوطني والوحدة الوطنية ثم إمتدّ لهيب الثورة عارماً في مدن العراق الكبرى كالناصرية والبصرة والنجف والكوفة والديوانية والأنبار والموصل وواسط وديالى وكان لأحداث رمضان عام 1920م الأثر الأكبر في جمع الكلمة وتظافر الجهود وسمو المعاني وجعلها رصاصة في صدور أعداء العراق من خلال طرح الأفكار وتنسيق الرؤى وتحشيد الجهود والتعاون البنّاء في السراء والضراء وفي العسر والرخاء وكان للتقارب الشيعي السني أثره الواضح في وحدة المجتمع التي بدونها لا يمكن العيش بسلام وأستقرار وعلى جميع العراقيين أن يدركوا وبمختلف طوائفهم ودياناتهم وقومياتهم أن أستقرار بلدهم لا يتم الا بالتقارب والتعاضد والوئام لذلك كانت الحركة الوطنية العراقية آنذاك قد أخذت على عاتقها ضرورة التقارب والتسامح والتنسيق لِلمْ الشمل وتوحيد المواقف للوصول الى الآهداف المنشودة في تحرير العراق ونهضته وإسعاد شعبه فالوطن واحد والدين على الأغلب واحد والعيش المشترك جامع وضروراته حتمية.

لقد نجحت الحركة الوطنية العراقية في مساعيها لوحدة المجتمع قبل أكثر من مائةعام وكان من ثمار هذا التقارب حضور جميع الطوائف العراقية في صيف عام 1919 م لتأبين المجتهد محمد كاظم اليزدي رحمه الله كما ظهر التقارب على أشده ايضاً خلال شهر رمضان المبارك الذي بدأ في 19 مايس من عام 1920م حيث كانت الأجتماعات الدينية تُقام مجتمعة فأحتفالية السِنة بالمولد النبوي الشريف يحضره الشيعة ويشاركون فيه بفعالية كما أن المجالس الحسينية التي يقيمها الشيعة يتواجد فيها علماء وجمهور كبير من السِنةّ حتى أن الشعائر ومجالس العزاء كانت تقام مجتمعة في الحسينيات والمساجد بالتعاقب ويشارك فيها الجميع من الطائفتين ويقول كاظم الدجيلي رحمه الله في كتابه أحداث ثورة العشرين (أن صاحب فكرة التقارب هذه السيد صالح الحلي حيث دعى الى تعطيل العمل يوم الجمعة وتوجيه دعوة عامة لجميع العراقيين سنة وشيعة للأجتماع) ثم قرر رحمه الله خلال هذا الأجتماع أنه سيذهب الى جامع السيد سلطان علي ليخطُب في أهل السنة كما يخطب في أهل الشيعة وعلى أثر هذه الدعوة توجه الجميع سنة وشيعة الى الجامع المذكور حيث أقيمت خطبة وصلاة موحدة في الجامع وأمتلأت الشوارع بالمصلين وكانت لدعوة الحلي هذه أثراً كبيراً سيطر على عقول وقلوب جميع المسلمين وأخذت هذه التجمعات تتسع أكثر فأكثر وشرع الناس بأقامة المولد النبوي الشريف ومأتم لقراءة مناقب الأمام الحسين عليه السلام فشاعت فكرة (المولد التعزية) التي مثّلت ظلالا للتقارب والمحبة والشعائر المشتركة ويذهب في هذا الإتجاه أيضا المرحوم الشيخ محمد مهدي البصير ويؤكد أنه (هو صاحب فكرة التقارب السني الشيعي حيث يقول أنه كان قد تحدث مع السيد محمد الصدر في ربيع عام 1920م في موضوع أثارة الشعور الوطني بين الناس عن طريق أقامة الحفلات الدينية المشتركة).

أستمر التقارب الأخوي بين العراقيين بفضل هذه الحكمة والعقلنة والوطنية التي يتمتع بها هؤلاء العلماء الأجلاء رحمهم الله جميعا وأقيمت عدة حفلات مشتركة تحت عنوان المولد التعزية بالأشارة الى المولد النبوي الشريف ومجالس التعزية للأمام الحسين عليه السلام تُلْقى فيها خطب للأئمة والعلماء والخطباء والوعاظ وهنالك حفلات مشتركة وأمسيات رمضانية بدأت في جامع الميدان مساء الخميس 20 آذار وطبعت بطاقت دعوة بأسم محلة الميدان ووزعت لجميع العراقيين لحضورهذه الأمسيات فعززت من تعالي نداءات الوحدة الوطنية ومن هنا نقول أن النيات الصادقة تثمر نتائج طيبة المذاق وأن السعي لوحدة المجتمع وتقوية أواصر صلاته يتحملها بالدرجة الأساس رجال الدين والمفكرين وشيوخ العشائر وقادة الفكر لأن خطوط التواصل والمقتربات بيننا أشد وأصلب من الفوارق ومن يريد أن يبني وطن ودولة فعليه أن يبحث في المشتركات لأن الفوارق تضر بمصلحة الشعب والوطن وتبعثر الأهداف الوطنية وتبدد المقاصد النبيلة وتزرع الشرور في طريق وحدة الوطن وأزدهاره وما أشبه الأمس باليوم لقد كانت الوفود تتقاطر ما بين الكاظمية والأعظمية فيخرج أهالي الأعظمية والجعيفر والسوامرة والتكارته وهم يهللون ويكبرون ويعانق السيد الشيخ عناقا أخويا صادقاً ويصدح الجميع بالصلاة والسلام على الرسول المصطفى عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام وكانت زيارات أهالي الأعظمية للأمام موسى الكاظم عليه السلام دائمة وكان من دواعي الحب لآل بيت النبوة أن يشارك أهالي الأعظمية أهالي الكاظمية مواكبهم الحسينية وعندما تحل ذكرى وفاة سيدنا علي بن ابي طالب عليه السلام يذهب موكب أهالي الأعظمية الى الكاظمية وعند وصول الموكب الى صحن الكاظمية يهزج قائلا:

أبو بكر وعمر حزناين *** عالوصي حيدر

وملائكة السما وجبرائيل *** لأجله تكِـــــّدّر

 

ومواكب أخرى تسير من محلة السوامرة والتكارتة تذهب الى محلة الشيخ بشار للمشاركة في العزاء حتى أن جريدة الأستقلال قد ذكرت هذا التقارب في عددها 28 الصادر عام 1920م ونقلت صورة لهذا التقارب والمشاركات في المآتم الحسينية حيث تقول (أن المآتم الحسينية أشترك فيها هذه السنة جميع المسلمين فكنت تشاهد فوجاً من الشيعة معه أفواج من أهل السنةّ كما تشاهد مشعلا للشيعة ومعه أضعافا لأهل السنة وفي يوم العاشر من محرم ذهب الجميع الى الكاظمية للأشتراك بهذه الواقعة) لقد كان الناس في تلك الفترة يشاهدون ويشاركون في مسيرات وزيارات واسعة لكربلاء والنجف والكاظمية حيث تتحول هذه المواكب والشعائر الدينية الى خطابات حماسية ونداءات روحية يمتزج فيها الشعور الديني ويسمو فيها الشعورالوطني على الشعور المحلي والمذهبي وما أن هبتّ رياح ثورة العشرين حتى شمّر الجميع عن سواعدهم ووقفوا وقفة رجل واحد للدفاع عن وحدة العراق وأستقلاله وحمل السلاح ضد قوى الأحتلال البريطاني في كافة أرجاء العراق مستجيبين لنداء المراجع الدينية بالثورة وملبين نداء الوطن وصرخات المدن المحاصرة مناشدين العون من الله لخوضهم غمار الناروالرصاص في معركة غير متكافئة بالعدد والعدة لكنها أقوى بالأيمان والصبروالشجاعة وعظيم الواقعة ولا يزال العراقيون يستذكرون قول الشيخ ضاري رحمه الله (ليس في الأسلام سنة وشيعة بل هودين واحد وعرق واحد وكلمة واحدة)وعندما رد عليه لجمن بالقول أن الحكومة البريطانية حائرة لا تدري هل تشكل حكومة شيعية أو سنية ردّ عليه الشيخ ضاري بالقول (العراق ليس فيه شيعة أو سنة بل فيه علماء أعلام نرجع اليهم في أمورديننا) فقال لجمن وهو يحاول إثارة النزعة المذهبية العشائرية في نفس الشيخ ضاري رحمه الله (أنكم عشائر والأجدرأن تكونوا مستقلين) فرد عليه الشيخ ضاري... (علمائنا حكومتنا وقد أمرنا القرآن بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمرمناّ فأذا أعتديتم عليهم فأننا سننتصر لهم ونحاربكم بجانبهم والأوْلى أن تلبوا ما أرادوا).

لقد أدرك العراقيوّن عامة والثوار بشكل خاص أنه لا يمكن أن يكتب لمساعيهم التوفيق والنجاح الا بالتقارب السني الشيعي كما أنّ التعاون والوئام بين جميع أطياف الشعب ضرورة وطنية تفرضها حاجات الشعب والوطن للوصول الى حيث الأمان والقوة والظفر وأن الخِلاف والتخندق والتهميش يُضعف الجميع ويضر بالأهداف الوطنية العليا والمقاصد الأنسانية النبيلة.

30 حزيران 2024م

شبكة البصرة

الثلاثاء 26 ذو الحجة 1445 / 2 تموز 2025

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط