بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ |
الخروج من النفق السوداني المظلم |
شبكة البصرة |
صلاح المختار |
في ضوء التعاظم الخطير للكارثة في السودان والتي تسحق شعبنا هناك بلا رحمة، وسط وتصفيق القوى الدولية وبعض الأنظمة العربية وقوى اقليمية، فإننا سنلقي الضوء على التطورات الاخيرة. وفي البداية لابد من تثبيت ملاحظة وأخذها بجدية لأنها تفسر بصورة دقيقة وصحيحة الواقع السوداني الحالي، وهي أن الانتفاضة السودانية غير منفصلة عن سلسلة الانتفاضات التي بدأت في تونس في نهاية عام 2010 وانتقلت إلى مصر واليمن في عام 2011 ثم إلى ليبيا وسوريا والعراق، وبعدها بفترة ليست بالقصيرة تفجرت في السودان، هذه الانتفاضات كانت جزء من مخططات قوى خارجية ارادت استغلال الواقع السيء من اجل جر الاقطار العربية الى كوارث التقسيم تحت غطاء الانتفاضة والتي لها مبرراتها القوية في نفوس الجماهير التي انتفضت ضد أنظمة فاسدة ومفسدة وتابعة للغرب وللصهيونية وطمحت إلى التغيير الديمقراطي وإنهاء حكم الفساد والفاسدين والتابعين، ولكن اغلب القوى الوطنية والشخصيات البارزة التي ساهمت في الانتفاضات المذكورة لم تكتشف، او تجاهلت وهي تعرف، إن تلك الانتفاضات لم تعد لها هي، اي القوى الوطنية المعروفة، بل إن من فجرها أفراد وكتل صغيرة من المتعاطين مع الإنترنت ولهذا أسميت (انتفاضة الفيسبوك)! لقد طغت اعلاميا وميدانيا اسماء غير معروفة ولم تحسب يوما على أي قوة وطنية في الأقطار العربية، مثل وائل غنيم وحركة شباب 5 إبريل في مصر، وتلك العناصر هي التي قادت الانتفاضة في مصر ثم التحقت قوى أخرى لم تخطط للانتفاضة مثل الإخوان المسلمين، وهذا ينطبق على ما جرى في اليمن وتونس وليبيا وسوريا والعراق. وقد شرحت هذه المسألة التفاصيل في دراستي للانتفاضات في عام 2011 و2012 والتي طبعت في كتاب ضخم بعنوان (متلازمة امريكا). وفي الحالة السودانية كما في حالة الاقطار الاخرى فإن ما سمي ب(الربيع العربي)، كان تنفيذا لمخطط أمريكي إسرائيلي تفصيلي تبنته إدارة باراك أوباما وقام هو شخصيا وهيلاري كلينتون بالتدخل الصريح في انتفاضة مصر مثلا، والضغط على الرئيس المصري السابق حسني مبارك للاستقالة واضطر لتقديمها. هذه الوقائع جعلت مبارك يطلق مقولته الشهيرة (المتغطي بأمريكا عريان) وكان يعبر عن خيبة امل من خدم امريكا فكوفأ بالاهانة والاقصاء! وهذه الحقيقة تثبت ان هذا المخطط لم تضعه أي من القوى الوطنية لإسقاط الأنظمة سواء في تونس أو مصر أو اليمن أو ليبيا، وفي حالة سورية فإن الانتفاضة التي انطلقت من درعا كانت انتفاضة وطنية حقيقية قامت بها قوى وطنيةسورية بخلاف انتفاضات بقية الاقطار، لكن المخابرات الامريكية وغيرها زجت كتائبها المتنقلة التي عرفت بأسماء مختلفة منها القاعدة وداعش والحرس الثوري الايراني وحزب حسن نصرالله وغيره من التسميات الفرعية فحولت الانتفاضة الوطنية الحقيقية إلى كارثة نرى تأثيراتها الآن. الحقيقة الأولى الجديرة بالانطلاق منها للبناء في كل الأقطار العربية هي أن ما سمي بالربيع العربي لم يكن إلا ربيعا عبريا أمريكيا خططت له المخابرات الأمريكية ونفذته عبر عناصر دربتها في معاهد صربيا وغيرها واعدتها لتبني نظرية ضابط المخابرات الأمريكية المتقاعد البروفيسور جين شارب التي وضحها في كتابه (كيف تسقط الأنظمة بدون عنف)، ولو نظرنا الآن إلى ما حدث منذ انتفاضة تونس وحتى الآن لرأينا أن منطلقات هذا الكتاب قد طبقت حرفيا حتى من قبل القوى الوطنية التي إنساقت وراء الموجة الأقوى منها والتي صنعها الإنترنت والمخابرات الأمريكية، فقبلت بكل الشعارات والأخطر قبلت بكل الحلول في مختلف مراحل هذه الانتفاضات، وهي حلول وضعتها المخابرات الأمريكية وطرحتها العناصر المرتبطة بها، وبما أن القوى الوطنية كانت متشرذمة وليس بينها علاقات ستراتيجية جبهوية موحدة قبل الانتفاضات فإن مسار الانتفاضات بقي بين السكتين الأمريكية والإسرائيلية، ولم تتمكن أيا من القوى الوطنية من إخراج الانتفاضات من بين السكتين وهذا يشمل الانتفاضة السودانية. وكنا نأمل إن الفترة الفاصلة بين الانتفاضات التي وقعت في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية وبين الانتفاضة التي وقعت في السودان، ستكون فترة طويلة كافية لاستخلاص الدروس من تلك الانتفاضات من قبل قوى الحرية والتغيير في السودان وعدم تكرار أخطاء القوى الوطنية التي ارتكبت في الأقطار العربية الأخرى، لكن مع الأسف الشديد فإن القوى الوطنية السودانية التي انتفضت ضد نظام البشير كانت تبدو وكأنها لم تسمع ولم تقرأ ولم تفهم ما حصل في ما سمي ب(الربيع العربي)، بل ان كثير منها تصر حتى هذه اللحظة، مثل المرتد علي الريح السنهوري، على ان ماحدث كان انتفاضات وطنية خالصة ركبت موجتها المخابرات الامريكية! وبالتالي لم تتمكن من تجنب الفخاخ التي وقعت فيها الجماهير العربية السليمة النوايا المنتفضة ضد الأنظمة. وقدر تعلق الأمر بالانتفاضة السودانية فأن الحقيقة الابرز هي أن قوى الحرية والتغيير، باستثناء حزب البعث السوداني بقيادة الرفيق أحمد الحسين والحزب الشيوعي، لم تستوعب دروس الانتفاضات العربية وانساقت بلا تردد وراء ما كان يطرح من خطوات وشعارات من قبل عناصر مرتبطة بالمخابرات الأمريكية والإسرائيلية، ونتيجة لذلك وصلت الانتفاضة السودانية التي قدمت فيها أرواح شهداء كثر من شعبنا السوداني إضافة للجرحى والمعوقين، إلى طريق مسدود وتحولت الى محرقة بكل معنى الكلمة للشعب السوداني وللكيان الوطني السوداني المهدد بالتقسيم.
أما الحقيقة الثانية وهي الأكثر مرارة فإن كل ما ظهر من معطيات أثناء الانتفاضة السودانية في سنتها الأولى كان عبارة عن رسائل واضحة المعنى وواضحة النتائج، لو استوعبت كانت تكفي لمنع وصول الانتفاضة إلى نقيضها التام وهو الكارثة الحالية، وأول الرسائل التي كان يجب أن تفهم بصورة صحيحة هي أن عبد الفتاح البرهان ومحمد دقلو حميدتي كانا جوهر نظام البشير وحماته وليس العكس، فكيف يمكن لمن حمى النظام طوال عقود أن يكون نقيضه إلا إذا كانت العملية هي تغيير الوجوه وإضافة الغام أخطر والتي تفجرت فيما بعد؟ الخطيئة العظمى بل الأعظم التي ارتكبتها قوى الحرية والتغيير هي قبول البرهان وحميدتي كقادة للانتفاضة في مرحلة ما بعد إسقاط البشير والذي تم بقوة البرهان وحميدتي بعد أن تخليا عن البشير وغدرا به! إن تشكيل مجلس السيادة والوزارة والذي تم بالتنسيق بين قوى الحرية والتغيير والبرهان وحميدتي كان المقتل في مسار الانتفاضة وتحويلها إلى كارثة السودان.
أما الحقيقة الثالثة فهي أن قوى الحرية والتغيير لم تتردد بغالبية أطرافها في التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية على أنها تلعب دورا إيجابيا في تقديم الحلول وهذه خطيئة كبرى أخرى فمن وضع خطط تقسيم السودان وكان وراء فصل الجنوب هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، فكيف يمكن لأمريكا التي قامت بهذا الدور أن تطرح حلولا للخروج من أزمة السودان تخدمه وتعزز وحدته الوطنية وهويته؟ إن اللغز يكمن هنا وعلينا أن نراه، وهو إنه في اللحظة التي قبلت قوى الحرية والتغيير بالدور الأمريكي في تقديم الحلول فإنها فقدت أي إمكانية للمحافظة على الطابع الوطني للانتفاضة وقبلت ضمنا بتحويلها إلى خطوات على طريق تقسيم السودان، من خلال التراجعات الوطنية والقومية والتي تمثلت في إقدام البرهان وحكومته على الاعتراف غير المبرر بإسرائيل والالتقاء بنتنياهو والتطبيع مع إسرائيل! كان ذلك جرس خطير يدق وينبه كل القوى الوطنية السودانية إلى حقيقة الوضع الذي وصلت إليه الانتفاضة، ورغم أن حزب البعث السوداني برئاسة الرفيق أحمد الحسين والحزب الشيوعي السوداني قد انسحبا من الحكومة احتجاجا على التطبيع فإن بقية قوى الحرية والتغيير لم تستوعب معنى هذا التغيير الخطير والجوهري في مسار من يقود الانتفاضة، فالتطبيع مع إسرائيل يسقط الطابع الوطني والتحرري للانتفاضة وقواها التي بقيت في وزارة مطبعة أو في مجلس السيادة ولم تنسحب.
الحقيقة الرابعة وهي الحقيقة المؤلمة التي تؤكد بأن قوى الحرية والتغيير لسبب ما لم تستثمر قواها العسكرية، داخل الجيش وقوات التدخل السريع والاجهزة الامنية ولا بين الميليشيات المدربة التي اقامها نظام البشير، وتقوم بتوجيه ضربة حاسمة للبرهان وحميدتي معا وإسقاط نظامهما وإقامة نظام الانتفاضة الوطنية الحقيقية وتحقيق الأهداف التي أعلنتها قوى الحرية والتغيير، في كل الانتفاضات في العالم هناك لحظات الذروة أي وصول الصراع إلى مرحلة أعلى التوترات وبالأخص استعداد الجماهير لتقديم التضحيات بلا حدود، فيكون على قيادة الانتفاضة استثمار قواتها المقاتلة لإسقاط نظام العسكر وبلا أي تردد، لأن أي تردد يؤدي إلى زوال لحظة الذروة الثورية الحاسمة فتتلاشى تدريجيا القدرة على إسقاط النظام. ومع الأسف الشديد فإن قوى الحرية والتغيير وقعت في فخ التردد والعجز عن استثمار قدراتها البشرية داخل تنظيمات ومؤسسات العسكر وغير العسكر، فكان من الطبيعي أن تتحول قوى الحرية والتغيير من قائد للانتفاضة إلى تابع للعسكر مضطر لأن يتقبل قراراتهم.
الحقيقة الخامسة أن بعض مكونات قوى الحرية والتغيير تحظى بدعم أمريكي صريح ومباشر، ولذلك تدخلت امريكا للضغط المباشر والرسمي على حكومة البرهان لإطلاق سراح من اعتقلتهم. وزاد الأمر وضوحا حينما قبلت الحلول الأمريكية لأزمة السودان وهي حلول لا يمكن فصلها عن الستراتيجية الأمريكية تجاه السودان حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي خططت مع الصهيونية لتقسيم السودان فكيف يمكن للإدارة الأمريكية أن تقدم حلولا لأزمة السودان بعيدة عن ستراتيجيتها تجاه السودان؟ إن هذا التناقض الصارخ في موقف بعض قوى الحرية والتغيير مكن البرهان وحميدتي من الإسراع بتنفيذ الخطوات الأخرى التي تؤدي إلى تقسيم السودان.
الحقيقة السادسة إن سيطرة العسكر وتراجع تأثير قوى الحرية والتغيير كان التمهيد الطبيعي للخطوة الأخطر في المخطط الأمريكي الإسرائيلي وهي تفجير صراع البرهان وحميدتي بعد أن استنزفت قوى الحرية والتغيير وحيّدت، فحان الوقت لتنفيذ خطوات المخطط الأمريكي الصهيوني القديم. وليس ثمة شك بأن الصراع بين حميدتي والبرهان مخطط له مسبقا مثلما خطط مسبقا لإسقاط البشير بقوة داعميه ثم دفع النظام البديل إلى التطبيع مع إسرائيل والارتهان للحلول الأمريكية، ما يعيشه السودان الآن هو تطبيق للمخطط الأمريكي الإسرائيلي والقائم على أن السودان يجب أن يقسم إلى أكثر من دويلة، وهذه حقيقة لم تغب عن ذاكرة قوى الحرية والتغيير لأنها واضحة وثابتة ولكنها استبعدت عمدا ارضاء للذات بسلامة الموقف ورفض الاعتراف بارتكاب أخطاء.
ما هو الحل للخروج من هذه الكارثة؟ أولا: المهمة الأساسية الآن هي إيقاف الحرب، لأنها الحريق الذي يحرق الاخضر واليابس في السودان بسرعة والمحافظة على كيانه الوطني، ولا يمكن إيقاف الحرب إلا بجهد شعبي شامل للقوى الوطنية السودانية والتي بإمكانها تجريد طرفي الحرب تدريجيا من القدرة على مواصلتها، فالجبهة الشعبية المطلوب قيامها بمشاركة كل القوى والشخصيات الوطنية السودانية يجب أن تعمل لوقف الحرب قبل كل شيء. ثانيا: من الضروري أن تكون للجبهة الوطنية العريضة ستراتيجية وطنية واضحة وتفصيلية تحدد الهدف المركزي والأهداف الفرعية وطرق الوصول إليها، والهدف الجوهري كما قلنا هو إيقاف الحرب ثم البدء بالهدف الجوهري الثاني وهو ترميم انهيارات الدولة والمجتمع وتأهيل المؤسسات الحكومية للعمل على تحقيق نهوض سريع. ثالثا: أن أي وهم لدى بعض القوى الوطنية السودانية بأن الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل يمكنهما المساهمة بإنقاذ السودان من كارثته يجب استئصاله فورا وبلا تردد، لأن من أصاب السودان بالمقتل هي الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وهما من حرك الأدوات الداخلية الانفصالية، وهما من كانا السبب الرئيس في فصل جنوب السودان، كذلك فان انظمة عربية تلعب دورا خطيرا في كارثة في السودان فليتركز الجهد ليس على كشف الذيول فقط بل على كشف الرؤوس التي تسببت في هذه الكارثة، وتجنب اي مراهنة عليها في الحل. ولكي لانقع في الفخ التقليدي الذي وقعت فيه الانظمة العربية وهو ضرورة لعب ما يسمى (المجتمع الدولي) دورا في الحل نذكّر بان ما اوصل قضايا العرب الى طريق خانق وليس مسدود فقط هو المجتمع الدولي الذي تتحكم بقراراته امريكا، عندما تكون هناك جبهة وطنية عريضة قوية تستطيع هي التحكم بمواقف الاخرين او على الاقل منع تخريبهم وانتقاء الخيارات والحلول الناجحة. رابعا: والجبهة الوطنية العريضة يجب أن تمثل كافة مكونات السودان الفعالة لان استثناء اي طرف سوف يفضي الى شق الجبهة وافشال عملها. خامسا: والجبهة يجب ايضا ان لا تستبعد اعتماد السلاح لوضع حد للكارثة فالسلاح لا يحيده إلا السلاح، وأي وهم بوجود حل شامل للأزمة السودانية بدون العنف، او التلويح به بقوة، سيكون خطيئة أخرى بحق السودان وشعبه. والخسائر المترتبة على انخراط الجبهة الشعبية في الصراع المسلح ستكون أقل بكثير من استمرار الوضع الحالي. بقوة الجبهة فقط يمكن إجبار الولايات المتحدة وإسرائيل وأنظمة عربية على إعادة النظر ونكرر: الحديد لا يفله إلا الحديد. فهل تتحمل قوى الحرية والتغيير تحدي اعادة النظر وتبني خطة مختلفة؟ Almukhtar44@gmail. com 5-7-2024 |
شبكة البصرة |
السبت 30 ذو الحجة 1445 / 6 تموز 2025 |
يرجى الاشارة الى
شبكة البصرة
عند اعادة النشر او الاقتباس |