بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

عقيدة البعث: قومية فقط ام عالمية ايضا؟

شبكة البصرة

صلاح المختار

من البديهيات المعروفة هو أن الخطة الامريكية المعروفة بأسم (أجتثاث البعث) مبنية أساسا على التخلص من عقيدته، فالتنظيم يستمد قوته وأهميته ودوره من عقيدته لانه خادمها ووسيلة نضالها ، ولا يمكن للتنظيم أن يكون فعالة وقادرا على أحداث التغيير الجذري بدون بوصلة ثابتة وواضحة هي عقيدة الحزب، وهذه الملاحظة يجب أن تكون حاضرة عندما نتعامل مع خطة الاجتثاث فلا اجتثاث ناجح للحزب إلا عندما يشكك بعقيدته تمهيدا للتخلي عنها، وهكذا يفرغ الحزب من مصدر قوته وتميزه ويتحول الى هيكل ميت . أما الاجتثاث الدموي فهو أقل وخطورة من الاجتثاث العقائدي فالقتل والإعدامات والاعتقالات للبعثيين كانت تاريخيا أحد أهم عناصر زيادة قوته وانتشاره بعكس ماخطط، بينما التشكيك بعقيدته القومية الاشتراكية ومحاولة تهشيمها هو الذي يضع الحزب أمام الزوال في حالة نجاح التهشيم العقائدي!

وبعد غزو العراق، وبالتزامن مع الإعدامات والتصفيات الجماعية للبعثيين، بدأت خطوة أخرى وهي التشكيك بعقيدة البعث بالادعاء بأن الزمن قد تجاوزها، وأن التيار القومي العربي برمته قد فشل وعلينا أن نبحث عن بديل فكري يناسب العصر وروحه ويتماشى مع الثورة الرقمية، وعصر حقوق الانسان والمواطنة ! ويستخدم لإمرار كل تلك الطروحات واهمها  اعتبار إسقاط النظام الوطني في العراق دليلا على فشل عقيدة البعث، وبالطبع فهذه الأطروحة تدحض نفسها بنفسها لسبب بسيط وواضح وهو أن غزو العراق بعد مسلسل الحروب والأزمات التي اصطنعها الغرب والصهيونية وإسرائيل الشرقية -إيران- كان دافعه الرئيس نجاحات البعث في العراق وليس فشله، العالم كله يدرك بأن ما حققه نظام البعث في العراق من تقدم علمي وتكنولوجي كان مذهلا للصديق قبل العدو، وكانت الإنجازات الاجتماعية انقلابا جذريا فقد نجح نظام البعث في المحو التام للأمية والفقر ، وبجعله للطب والتعليم مجانيين ضمن إعداد أجيال من العراقيين تتمتع بالصحة وبوضوح الرؤية، فالإنسان المتعلم والمثقف والضامن لحياته الحرة الكريمة هو الوحيد القادر على البناء والتقدم.

إذن الحقيقة الجوهرية التي لا يمكن تجاهلها أو أنكارها هي أن اجتثاث البعث يبدأ قبل كل شيء بالتشكيك بهويته القومية الاشتراكية وأدعاء أنها تخلفت وأن المطلوب هو بلورة فكر جديد يناسب العصر ويردم الفجوة التي تركها فشل التيار القومي، كما أدعت الجهات الغربية والصهيونية ومعها إسرائيل الشرقية، ويجب أن نؤكد أن العكس هو الصحيح تماما فعقيدة البعث أثبتت أنها الأصلح في القرن 21 من أي عقيدة أخرى، في ضوء ما تقدم كيف نثبت أن اشتراكية البعث لا تصلح فقط للأمة العربية بل هي يمكن أن تكون حلا لمشاكل كل الأمم ؟ للإجابة ينبغي تناول ثلاثة نقاط رئيسية:

1- إن اشتراكيته قومية أي أنها تعبر عن خصائص الأمة التي تطبق فيها، لذلك فاشتراكية البعث لم تعد مقتصرة على العرب بل يمكن لكل الشعوب في العالم المتقدم والعالم الثالث تبنيها والبناء عليها، لأنها تطبق الاشتراكية في بيئة خاصة تراعيها وتعتمد عليها ولا تلغيها قسرا، وهي بيئة الثقافة الوطنية والتقاليد الاجتماعية والتاريخ.

2- عقيدة البعث لم تقع في فخاخ الإلحاد كما حصل للاحزاب الشيوعية، بل أبقت الحزب إيمانيا. وهذا عامل آخر يوسع نطاق تطبيق عقيدة البعث خارج الوطن العربي، لانها توفق بين ايمان الاغلبية بالله وبين بناء مجتمع خال من الفقر والأمية والجهل.

3- اشتراكية البعث لا تلغي الملكية الفردية بل تحافظ عليها وحدد القائد المؤسس ميشيل عفلق السبب في أن للإنسان رغبات وحقوق خاصة مثل ملكية بيت وسيارة ومعمل خاص، وهي تشكل أهم حوافز الإبداع والتقدم، لذلك لا بد من وجود قطاع خاص في النظام الاشتراكي البعثي خاضع للقطاع الاشتراكي، وبذلك يتحقق هدفان مترابطان عضويا وهما سيادة القطاع الاشتراكي وإبداعات القطاع الخاص.

في ثمانينيات القرن الماضي ظهرت توجهات في الاحزاب الشيوعية الأوروبية خصوصا في فرنسا وإيطاليا أطلق عليها مصلح الشيوعية الأوروبية Eurocommunism تعبيرا عن الخصوصيات الأوروبية ورفضا للأممية الشيوعية،كما أن تيار الشيوعية الأوروبية شهد ظهور تيار ايماني يرفض إلالحاد ، وتميزت الشيوعية الأوروبية أيضا بالدعوة للملكية الخاصة أو الفردية لأنها محفز جبار للعمل الخلاق، وهكذا رأينا الشيوعية الأوروبية أقرب إلى عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي، وهذه الحقيقة تفضي الى ما يجب تأكيده للتاريخ وهو أن الذي تقرب الى عقيدة البعث هي الأحزاب الشيوعية في أوروبا، أحزاب شيوعية في أوروبا تراجعت عن الأممية لصالح تفعيل الهوية القومية، وتراجعت عن الإلحاد، واعتبرت الملكية الفردية والخاصة من أهم محفزات الإنسان.

عقيدة البعث وضعها ميشيل عفلق في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي واعلنها رسميا في عام 1947 في أول مؤتمر للحزب، وهكذا فإن الاشتراكية القومية التي اصبحت الان البديل الوحيد للرأسمالية المحتضرة هي من نتاجات الفكر  البعثي الخلاق، ولو لم تنفذ خطط أمريكية ضد أي توجه اشتراكي قوي لرأينا الآن أن التيار الاشتراكي القومي اليساري سيكون هو السائد في أوروبا الغربية على الأقل، بأفكاره التي شرحناها. وكان من أهم منظري الشيوعية الأوروبية روجيه غارودي منظر الحزب الشيوعي الفرنسي والذي كان شجاعا بما يكفي كي يطرح أفكاره آنذاك فأنتقل الى إلاسلام واختار اسم رجاء جارودي!

إذن كيف نفهم أدعاء أن هناك حاجة لفكر جديد ؟ ان ادعاء فشل التيار القومي كله، توجه مباشرة لحزب البعث العربي الاشتراكي لأن التيار القومي لم يبقى له من تنظيمات جماهيرية قوية إلا البعث.وهذا الادعاء وسواء أدرك من يروج له أم لا فهو أحد الخطوط الجوهرية في مخططات الغرب والصهيونية للسيطرة على الوطن العربي، فمن دون إزالة الفكر القومي التقدمي الاشتراكي لا يمكن لهذه القوى أن تسيطر على الوطن العربي، لأن الفكر القومي هو اللحمة الاساسية التي تربط العرب كلهم، ولهذا أكدنا طوال عقود مضت بأن القومية العربية هي الرابطة الأقوى دنيويا بين العرب بينما الدين هو الرابطة الأقوى روحيا بين الناس. فإذا نجح الغرب والصهيونية واسرائيل الشرقية في تهشيم مقومات القومية العربية فإن الطرق تصبح كلها مفتوحة لإحكام السيطرة على الوطن العربي، وهنا نرى التناقض واضحا بين دور القومية ودور الدين، فما يتعرض له الوطن العربي من كوارث، هو نتيجة مباشرة لاستغلال الدين والطائفة كسلاح هو الأكثر خطورة في إضعاف القومية العربية عبر اشعال الفتن الدينية والطائفية، وذلك كان الممهد الرئيس لعصر الكوارث الحالي، فمهدت القاعدة وداعش والميليشيات الايرانية الطرق للسيطرة الأجنبية على الوطن العربي.وفي ضوء ما تقدم فإن الدعوة لفكر جديد يحتل مكان الفكر القومي هو الركن الاساس في المخطط الغربي الصهيوني والايراني .

وما يجب لفت الانتباه إليه هو أن الدعوة لبلورة بديل فكري عن الفكر القومي تقترن بما ينسفها وينقضها نقضا تاما، وهي الدعوة الصريحة لاعتبار الثورة الرقمية أحد أهم قواعد بناء البديل الفكري الجديد، ومرة أخرى سواء أدرك دعاة هذه الفكرة أو لم يعوا فإنها دعوة تدميرية اشد خطرا وهولا من من كل التحديات التي واجهت البشرية لإنها في جوهرها خطة تشمل كل البشر هدفها الرئيس محو الإنسان الذي نعرفه والعمل على إنتاج مخلوق آخر من الانسان يختلف جذريا عن إلانسان الطبيعي هو السايبورغ - Cyborg - وهو مخلوق متكون من الإنسان ومن رقائق تضاف إليه في دماغه أو بقية جسده فتحوله من مخلوقا حر كما خلقه الله إلى آلة مطيعة تماما لمن يسيطر عليها بواسطة تلك الرقائق ! فالرقمية وإن كانت ظاهريا أمر إيجابي إلا أن كل الشرور تأتي منها في هذا العصر ،نعم الرقمية وثورة المعلومات فيها ايجابيات هائلة ولكن تلك الايجابيات ليست سوى قوة اغراء شيطانية لجعل الانسان يستعبد لغير الله ، فمن ينكر أن التليفون النقال والإنترنت واللاب توب هي منجزات مذهلة تخدم البشرية ولكن بنفس الوقت من يستطيع أن ينكر أن هذه الأدوات بالذات أصبحت أخطر أدوات السيطرة التامة على الإنسان، فلئن كانت الأنظمة الشيوعية والرأسمالية تسيطر على الإنسان من خارجه عبر أجهزة أمنية وكاميرات تنتشر في الشوارع والمؤسسات، فإن العصر الرقمي يدخل الرقابة إلى داخل الإنسان ذاته، فالمراقبة تتم فيه عن طريق الشرائح التي تزرع في دماغ أو جسد الإنسان.

هذا أمر مرعب، ولكنه ليس الوجه الوحيد للكارثة التي يراد أن تحدث للجنس البشري نتيجة العصر الرقمي ، فالإنسان الان وحتى بدون زرع شرائح في جسده أصبح فاقدا للحرية بشكل كامل فتأثيرات الإنترنت بكل البرامج فيه وتأثيرات الهاتف النقال أدت إلى سلب حرية الاختيار لدى الإنسان وأصبح كل شيء جاهز له :الطعام ،الملابس ،الموسيقى، السيارات ،العلاجات، وسائل  التسلية...الخ، وما على الإنسان إلا أن يختار من بين ما يقدم له عبر الإنترنت وبقية الأدوات!  وهذه حقيقة يعرفها الجميع، بل وصلت مخاطر العصر الرقمي الى حد أنه دمر العائلة والمدرسة والمجتمع وكل أنواع العلاقات السابقة للعصر الرقمي والتي كانت تشد البشر إلى بعضهم، فمنذ أصبح العصر الرقمي سائدا لم تعد العائلة هي المسيطرة ولا المدرسة ولا القيم الأخلاقية بل أصبح المسيطر هو الإنترنت وبقية الأدوات، فتقطعت العلاقات العائلية! الإنترنت هو الذي يعلم الأطفال وليس المدرسة ولا العائلة ولهذا فإن العائلة حتى حينما تلتقي بتأثير التقاليد السابقة للعصر الرقمي فإن كل فرد من العائلة خصوصا الشباب منهم يجلس على ما ئدة الطعام أو في غرفة الجلوس وهو يتابع في التلفون الأحداث وكأنه بعيد كل البعد عن عائلته بينما هو يخاطب بنفس الوقت في التليفون شخص آخر يجلس في قارة أخرى ولا يعرفه إلا عن طريق الإنترنت!

فهل يوجد خراب للإنسانية وعلى مستوى الكرة الأرضية كلها أكثر من الخراب الذي ألحقته المعلوماتية والعصر الرقمي بالإنسان؟ إنها أممية ساحقة ما حقة للبشر وتضع نهاية للإنسان عندما تكتمل خطط زرع الرقائق في جسده ، وهو ما يفعله علنا شخص بزغ فجأة وأصبح بليونير ولا أحد يعلم كيف وهو ايلون ماسك، صاحب شركة تيسلا ،والذي أعلن عن إجراء تجارب ليس على الخنازير والقردة فقط حيث زرعت شرائح في أدمغتهم لجعلهم قادرين على التصرف مثل البشر في حالات معينة، بل إنه أقدم على زرع الشرائح في دماغ بعض الناس وتحت غطاء جذاب وهو معالجة الأمراض المستعصية بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة على البشر وجعلهم روبوتات حية.

إن الحديث عن العصر الرقمي بدون أخذ تلك الملاحظات الجوهرية بعين الاعتبار غفلة قاتلة ستلحق الضرر في أصحابها، لأن التعامل مع العصر الحديث يجب أن يقترن حتما بفهم ليس ظواهره الإيجابية فقط بل باكتشاف بواطنه ونتائجه الفعلية والميدانية أيضا وقبل كل شيء. نحن بإزاء أممية قاتلة قسرية،وهذه المرة ستبدو أمامها الأممية الشيوعية والأممية الدينية لعبة أطفال، فهل يدرك ذلك من يدعو إلى العصر الرقمي كبديل لعصر الثقافة القومية والوطنية ؟

إن أبرز حقائق هذا العصر هي أن عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي هي الأصلح بالكامل للعرب لأنها تعالج مشاكلهم جذريا في مختلف مجالات الحياة بحلول عملية جربنا جزء منها أثناء الحكم الوطني في العراق الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان إسقاطه بغزو عالمي نتيجة حتمية لنجاحات عقيدة البعث عند تطبيقها في العراق، ولذلك وبما أن البشر تربطهم دوافع مشتركة فإن من يطمح لبناء نظام عادل في في كل قارات العالم ،يمثل تقاليده وتربيته بالإضافة إلى تعبيره عن الرغبة الجامحة الطاغية على ما عداها في الخلاص من الفقر والأمية والتمييز والاضطهاد فان ذلك لايمكن ان يتم الا عبر تبني الاشتراكية البعثية كنظام اقتصادي اجتماعي.

وعقيدة البعث وفقا لما تقدم،كان يجب أن تكون هي النظام البديل العالمي عن كل الأنظمة الأخرى سواء كانت رأسمالية أو غيرها، ولكن الذي منع ذلك هو الخطط التي وضعت لتدمير البعث وإنهائه قبل أن يحقق الصورة الكاملة لعقيدته في العراق ، وكان التقصير ناتجا عن إلهاء الحزب بالدمار الداخلي الذي ألحق به عمدا بعد غزو العراق فرأينا الحزب يتمزق في تأكيد حاسم على ان ما يحدث فيه عمل مخابراتي متقن وخطير ! وأحد أهم الأهداف هو منع ظهور عالمية  اشتراكية البعث وقبولها، وتلك مأثرة تضاف للارث الخالد للرفيق ميشيل عفلق كما انها تمنح الحزب قوة معنوية جبارة عندما نعيها توسع نطاق دائرة انتشار البعث .

Almukhtar44@gmail.com

28-6-2024

شبكة البصرة

الجمعة 22 ذو الحجة 1445 / 28 حزيران 2025

يرجى الاشارة الى شبكة البصرة عند اعادة النشر او الاقتباس
المقالات والتقارير والاخبار المنشورة في شبكتنا لا تعبر عن راي الشبكة بل عن راي الكاتب فقط