بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ |
متى يدمر المحبوب محبيه؟ |
شبكة البصرة |
صلاح المختار |
المحبوب هو المال، وقتلاه هم عبّاده! هل هذه العلاقة غريبة؟ كلا فهي علاقة السبب بالنتيجة، وهذه العلاقة الغريبة نجدها تتكرر عبر تاريخ استقرار الإنسان وجمعه لما يفيض عن حاجته من ثروة، ورغم أننا قرأنا في المدارس عن تاريخ الدول والامبراطوريات: كيف تأسست ثم نهضت وسادت، ولكنها بعد ذلك تمزقت وانهارت! ورغم ذلك لم نفهم بالوضوح المطلوب السبب الرئيس في صعود وهبوط الامبراطوريات والدول، وربما يكون ذلك عن عمد، ولكن الوقائع التاريخية ذاتها تحمل معها التفسير الصحيح، ولعل من أفضل التشخيصات لهذه الظاهرة ما قاله الجنرال جياب القائد الفيتنامي الذي هزم الاحتلال الأمريكي لفيتنام وقبله هزم الاحتلال الفرنسي، معتمدا على أسلحة شبه بدائية مقابل أحدث وأخطر الأسلحة لدى المحتل، ولكنه اعتمد على تربية البشر الذين قادهم، فعندما التقى بقيادات فلسطينية في السبعينات في بيروت وشاهد حياة البذخ والرفاهية التي يعيشها قادة تلك الفصائل والسيارات الألمانية الفارهة والسيجار الكوبي والعطور باهظة الثمن وقارنها بحياته مع ثوار فيتنام في الغابات الفيتنامية. قال لتلك القيادات بدون مواربة: لن تنتصر ثورتكم. سألوه لماذا؟ أجابهم: لأن الثورة والثروة لا يلتقيان، وهنا تكمن كلمة السر التي تفتح لنا أبواب فهم هذه العلاقة المعقدة بين المحب ومحبيه، فلقد كان ثوار فيتنام يعيشون مع رفاقهم في الغابات وفيها لايوجد عيش سهل بل يعاني الانسان من شظف العيش ومخاطره والحرمان شبه التام،وكان غاندي والهنود يخيطون ثيابهم بأنفسهم لمقاومة الاستعمار البريطاني، وكان ثوار الصين يعيشون مع الفلاحين قبل النصر،هكذا تنتصر الثورات، وتدوم الدول والقوى. ما قاله جياب وأكدته أحداث التاريخ السابقة ونراه في واقعنا العالمي برمته يؤكد دون أدنى شك بان الدول او الامبراطوريات العظمى تنشئ عبر الثورات والحركات الإصلاحية، تبدأ من الصفر أي من الفقر والظلم وتفاوت مستويات العيش،أو وجود قوة محتلة باغية ظالمة، ثم تنتقل الثورة بعد النصر الى مرحلة اعلى تبدأ أحيانا بنقل أغلب الناس إلى حالة ما فوق الفقر ولكنها بنفس الوقت، وفي حالات طاغية، تخلق طبقة الأغنياء وجل هؤلاء من الثوار الذين كانوا فقراء ولكنهم وبحكم قيادتهم للثورة وجدوا فرصة متاحة لتحقيق نوع من الإشباع، وكان هذا الإشباع المعوض عن الفقر السابق هو الخطوة الأولى باتجاه الثراء وهكذا نرى ان الثراء ما زال هو مدمر النقاء الإنساني. كلما تعززت أركان الدولة وتضاعفت مواردها تبدأ قرون الشيطان بالظهور في قمة الهرم فتتحول بعض موارد الدولة الى جيوبها وحاشيتها، ثم ينتشر الفساد من قمة الهرم الى الفئة الداعمة للنظام وتتحول إلى طبقة لها امتيازاتها والتي لا تشمل عموم الشعب الذي كان وقودا للثورة! وتستمر دولة الثورة في التعاظم والقوة لأنها مدفوعة بزخم الانطلاقة الأولى وزادت قوة بما حققته من اتساع وموارد مالية، رغم أن الشرخ العميق فيها قد حدث بين الفقراء والأثرياء، وهو شرخ يغتال روح الثورة حتما! وهنا يبدأ كل من الطرفين بفهم التحولات النفسية الناتجة عن التحولات الاقتصادية بصورة متناقضة حيث أن وقود الثورة أي فقراء الشعب يرون أن القيادة التي كانت مثلهم ومنهم قد اغتنت وترفهت ولم تعد فقيرة كما هم بعد قيام دولة الثورة، وبالمقابل فإن افراد الطبقة التي نشأت وحصلت على امتيازاتها يرون أن ما حصلوا عليه مكافئة لهم على جهودهم في إشعال الثورة! أما إذا كان الثراء هبة من الله ولم يتعبوا في الحصول عليه فإن الطبقة الحاكمة التي سيطرت على الثروة بعد فقر شديد أو متوسط تجد فيه هدية لها حصرا وهكذا تبدأ عملية الانهيار والدولة في قمة الصعود. عندما نرى الثراء الفاحش تتمتع به الطبقة الحاكمة يقابله الفقر المنتشر بين عامة الناس يبدأ جرس الإنذار يدق بقوة،محذرا بشكل صريح وواضح من أن الانهيار قد بدأ وأن إيقافه مستحيل ما دامت ثنائية ثراء القمة وفقر القاعدة هي المتحكمة بالوضع! وحتى حينما ينتبه من في القمة إلى ضرورة إرضاء القاعدة الشعبية الفقيرة فيقدم على اصلاحات ترقيعية آنية لا تنجح إلا في اضافه زمن محدود لعمر الدولة أو النظام لأنها لا تزيل الفقر، بل تبقيه وقودا يغذي الشعلة البسيطة التي تتحول تدريجيا إلى حريق إن شامل، خصوصا عندما يقدم الثري على استفزاز الناس الفقراء ومن هم في عيش بسيط عن طريق جنون البذخ! الفقير الذي يرى أن حاكمه ومن معه يملكون المليارات ويعيشون حياة بذخ وفساد لا نظير لهما، بينما هو وأفراد عائلته يتضورون من الجوع والفقر والأمية،تنحدر قناعاته بالدفاع عن الدولة ويتلاشى دعم النظام تدريجيا. وفي تلك اللحظة يتقرر مصير الدولة حتما وهو الانهيار مهما طال بقاءها لأن أساس ومصدر قوتها لم يعد الشعب، بل القوة الغاشمة والتي تستخدمها لقمع المطالبين بالعدالة الاجتماعية. وهكذا فان من كان شجاعا نتيجة الفقر والحرمان وقاد حملات النهب وأسس دولة مكنته من تحقيق ثراء فاحش نراه اسيرا لثنائية الجبن مقرونا بأقسى طرق التعامل مع من يهدد هذا الثراء! تلك هي الحقيقة الكامنة خلف انهيارات القوى عظمى ودول ليس نتيجة حرب مع عدو خارجي بل نتيجة تفككها الداخلي الذي يبدأ مع بذرة الفساد الأولى والأخطر وهي الفوارق الطبقية الحادة والظلم والبذخ الفاحش والاستفزازي للناس. ولأن الاستعمار البريطاني والفرنسي اللذان احتلا وطننا العربي بعد انهيار الدولة العثمانية يعرفان الحقائق المشار إليها فإنهما، وخصوصا بريطانيا،تعمدتا تحديد كيفية توزيع الثروات النفطية المكتشفة مع عصر الاستعمار الأوروبي، فالحدود التي وضعت للأقطار العربية كانت غير موجوده قبل ذلك في ظل الحكم العثماني والحكم العباسي والحكم الأموي وحكم الخلفاء الراشدين، إلا أنها فرضت ابتداء من اتفاقية سايكس بيكو، وفي هذا التقسيم تم توزيع الثروة على كيانات ضعيفة وصغيرة ولا دور كبير لها تحكمها مشيخات كانت تعيش على هامش الامة وخارج التاريخ! بينما حرمت منها الكيانات الأكبر صانعة التاريخ المجيد لامتنا العربية فمصر والشام حرمتا من الثروة الطبيعية بجعلها ملكية لإمارات صغيرة لا تشكل دولة لافتقارها لاهم شروطها وهو السكان فلجأت بريطانيا إلى حل هو بذاته مقتل هذه الدول الصغيرة وهو استيراد العمالة من الخارج، ولكي تستمر المؤامرة البريطانية وتحصد ثمارها كاملة لم يكن استيراد العمال من أقطار عربية بل من دول غير عربية إمعانا في تغريب تلك الإمارات الصغيرة عن أمتها وتمهيدا لضمها لدول العمالة غير العربية كالهند! وهكذا أصبحت الثروة العربية ملكا لدول صغيرة لا تملك مقومات الدولة فكان طبيعيا أن تلجأ للحماية الأجنبية، فالذين عاشوا فقرا مدقعا واعتمدوا على الغزوات ونهب القوافل عبر التاريخ ولم تكن لهم موارد وكانت الأمية سائدة بينهم، وكان الأخ يقتل أفراد عائلته كالأب والأخ والعم كي ينصّب شيخا على المجموعة البشرية التي ينتمي إليها ويتمتع بالامتياز الممنوح للشيخ! وهذه هي الفئة التي اختارتها بريطانيا لتحتكر هذه الثروات الطبيعية، فصنعت دولها واقامت لها حدودا،فكان من الطبيعي أن تقاتل انظمة هذه الدول بشراسة لانظير لها متبعة كل الوسائل المتاحة للمحافظة على احتكارها للثروة وتوريثها للأبناء والأقارب وللبطانة! وحالة العراق كانت استثناء لأن العراق الغني بالنفط فيه شعب عريق وكبير بسكانه مقارنة بتلك المشيخات الصغيرة وكان أول من صنع الحضارات البشرية ولهذا لم يكن بالإمكان استبدال شعب العراق بشعب آخر في ذلك الوقت، ففرض على العراق نظام يضمن لبريطانيا وغيرها السيطرة على ثرواته،والان تجري عملية افراغ العراق من سكانه العرب وهم الاغلبية الساحقة وبنسبة 80% لكي تقام جمهوريات موز على انقاضه، وهذا ايضا يطبق على سورية ذات الاغلبية العربية بنسبة 95%! إن اللعنة التي حلت بالأمة العربية ابتدأت من وضع بريطانيا وفرنسا الحدود للدول العربية الحالية، فقد اعطت الاحواز العربية لاسرائيل الشرقية لان فيها 80% من النفط والغاز الذي يمول حكام الفرس الان وحرمت منه الاحوازيين وبقية العرب، ومنحت فلسطين لاسرائيل الغربية لتكون خنجرا في خاصرة العرب يمنع نهضتهم ويستنزفهم ويتوسع على حسابهم، ليحتل لاحقا منطقة الخصب والنماء بين الفرات والنيل، اما الثروات العربية فقد وضعت بغالبيتها بيد الغرب ولخدمته وجزء منها لهوامش العرب واكثرهم تخلفا وامية في ذلك الوقت،فلو وكانت الثروات العربية تابعة للأمة العربية كلها وتوزع مركزيا وبعدالة على أقطارها من موريتانيا إلى اليمن لكان حال العرب في أفضل أشكاله الآن، ولكن بريطانيا التي عرفت المرض الذي يحرك كثير من البشر وهو الأنانية المفرطة قررت منع تعريب الثروة وجعلها ملكا لعوائل وعشائر كانت تعيش خارج التاريخ،ولدولة طامعة بارض العرب واخرى اقيمت لنفس الغرض! ونظرة الى امتنا العربية تؤكد كل ما سبق، فأكثر ما يلفت الانتباه هو موقف الحكام العرب من حرب الابادة العرقية وجرائم الحرب في غزة وعموم فلسطين حيث نراهم يقدمون العون للكيان الصهيوني بطرق مباشرة وغير مباشرة، بينما اغلب العالم وقف منتفضا في اوروبا وامريكا الشمالية واستراليا وافريقيا واسيا داعما للشعب الفلسطيني، ومشخصا حقيقة ان امريكا هي المسؤول الاول عن هذه الحرب! والاسئلة التي سادت هي: لماذا أصبح حكام العرب اسرى وبصورة رسمية للغرب ولإسرائيل؟ ولماذا هذا الاستسلام للغرب والصهيونية الذي يجردهم من اي صلة لهم بوطنهم ويحولهم الى اعداء له؟ هل من المستحيل خوض حرب مع إسرائيل ردعا لها؟ الجواب كلا، فمنظمات مقاومة فلسطينية صغيرة لا تشكل فرقة من فرق الجيوش العربية الحقت هزيمة تاريخية مدوية بإسرائيل وحققت في ثمانية شهور مضت ما لم تحقق اغلب الأنظمة العربية طوال 75 عاما، رغم أنها لا تملك الدبابات والطائرات المقاتلة ولا المدفعية الثقيله ولا المال الكثير ولا المساحة الارضية التي تساعد على المناورة، فكيف نجحت هذه الفصائل بقدرتها المحدودة وعددها المحدود بينما تفشل الأنظمة التي تملك افقرها مليارات الدولارات وما لا يقل عن 50 الف جندي والاف الدبابات و المدافع والطائرات المقاتلة؟ ان السبب هو في النفوس وليس في العدد والعدة،فهؤلاء الحكام تم إفسادهم تدريجيا عن طريق منحهم الامتيازات المادية مثل حكم الارض التي وجد فيها النفط والغاز، او ان الغرب منح حكاما أخرين العقود، أو أنه سلمهم الحكم لكي ينهبوا اموال الفقراء ولهذا فهم عبيد للغرب والصهيونية، فقتلت شجاعتهم القديمة. إن هذا الفرق الهائل بين من يفتقر إلى لقمة العيش الكريم وبين من يملك الثروات ويطلي مراحيض قصوره بالذهب ويتباهى بذلك علنا بينما يموت عرب في فلسطين وسورية واليمن وموريتانيا وارتيريا والصومال والعراق المحتل والسودان من الجوع! وهذا لم يفعله أكثر أثرياء العالم فسادا، وهو يفسر سبب انهيار الامة وعجزها عن نصرةالحق العربي! ان اعظم دروس التاريخ يؤكد بان من يعيش هذا البذخ يتحول تدريجيا من صاحب قيم قبل أن يثرى الى انسان لا قناعة له إلا المحافظة على الثروة وحياة البذخ التي يعيشها، والطريق الأسهل هو تسليم أموره بالكامل لأمريكا مقابل حمايتها لهم، وكذلك التطبيع مع اسرائيل بعد ان أوهم بأن شهادة حسن سلوكه التي تقدم لأمريكا يجب أن توقع عليها إسرائيل! ولو كان حكام الأنظمة العربية المطبعة والمحمية بالقوات الامريكية يعيشون بنفس مستوى الشعب وحتى بصورة أفضل قليلا وليس لديهم الملايين ولا الامتيازات السلطوية الأخرى هل كانوا سيتجردون من كل القيم هكذا؟ الجواب كلا فالذي يجعلهم يقدمون التنازلات حتى الوصول إلى درجة العبودية هو ما سرقوه من ثروات ومن سلطات اقترنت بوجودهم في السلطة، لهذا فإنهم يدافعون عما حصلوا عليه بالدرجة الاولى وليس لديهم اي استعداد للدفاع عن قيم عليا دينية أو أخلاقية أو وطنية أو قومية أو إنسانية، والأدلة عبر التاريخ والحاضر تؤكد بالمقابل بأن الحكام الذين لم يملكوا أكثر مما يملك المواطن العادي وكانوا يخدمون الشعب بصدق حافظوا على انفة وكرامة الانسان فلم يركعوا الا لله. انظروا كيف صمدت كوبا امام اعتى اشكال التآمر والعدوانات العسكرية الأمريكية طوال عقود لان القائد الفذ كاسترو لم يكن يأكل ولم يرتدي الا ما يأكله ويرتديه كل مواطن،وانظروا كيف صمدت كوريا الديمقراطية أمام نفس التحديات، وانظروا الى الصين وكيف أنها تحملت أقسى أشكال الخراب الذي ألحقته بريطانيا فيها ثم أمريكا لكنها نهضت وتقدمت وتفوقت.وقبل هذا وذاك انظروا الى فلسطن وغزة بالذات سترون كأنها قاتلت بقوة جيش يضم عشرة ملايين مقاتل وبأسلحة الفضاء لان كل فلسطيني هو كتيبة كاملة ولم يبع احد منهم سلاحه، وهو ما فعله راكاد سالم عندما كان امين سر جبهة التحرير العربية في فلسطين الذي باع سلاح الجبهة واستولى عليه وخضع لاوامر الموساد! وكل هذه الدول حققت ذلك الصمود الرائع بفضل عدم السماح بوجوده فوارق طبقية كبيرة بين الناس ونزاهة الحكام، أما حكامنا فإن المال هو عجلهم المقدس المعبود،ولهذا فهم عبيد لإسرائيل والغرب. في اللحظة التي يكون الإنسان فيها فقيرا أو يعيش بما يكفي حاجاته الأساسية، ويوفر للطوارئ، يكون مدافعا ببسالة عن وطنه ودينه وعائلته وشرفه،ولكنه حينما يغتني بأفراط وعلى حساب الملايين الفقيرة يبدأ بالتنازل عن كل هذه القيم، ولا يبقى ما يدافع عنه الا ثرواته فقط! وتلك الحقيقة السايكولوجية كانت هي المحرك للاستعمار البريطاني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حينما نصب الحكام العرب، وكان الوهم الاكبر الذي زرعوه هو ان الثروة التي هبطت على مشايخ فقيرة نعمة من الله دون اكتشاف انها نقمة ولكنها ستتفجر لاحقا وبعد فوات الاوان! Almukhtar44@gmail.com 5-6-2024 |
شبكة البصرة |
الاربعاء 28 ذو القعدة 1445 / 5 حزيران 2025 |
يرجى الاشارة الى
شبكة البصرة
عند اعادة النشر او الاقتباس |