بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ |
هل حقا أنتهي البعث!؛ |
شبكة البصرة |
صلاح المختار |
في مقال للصحفية سوسن مهنا نشرته جريدة اندبندت عربية (وهي نسخة عربية من الجريدة البريطانية) بتاريخ 9 أبريل 2024 سؤال وضع عنوانا للمقال يشكك بأمكانية بقاء حزب البعث العربي الاشتراكي وهو: ماذا تبقى من "حزب البعث" في الذكرى الـ77 لتأسيسه؟ ولوافترضنا ان حسن النيه متوفر لدى الكاتبة، وبغض النظر عن الهوية البريطانية للصحيفة وهي معاديه للعرب، فان في هذا التساؤل تشكيك واضح بامكانية استمرار حزب البعث العربي الاشتراكي،استنادا الى واقعه الحالي المتسم بوجود انشقاقات قديمة وحديثة تجعل منطقيا صياغة هذا السؤال، ولكن منطقية السؤال تعتمد على من يطرحه، فغير البعثي او الحزبي المنتمي لحزب البعث دون استيعاب عقيدته، وهو يرى كل تلك الانقسامات منذ انقلاب حافظ اسد في عام 1966 وحتى الان من المنطقي ان يطرح هذا التساؤل. وهنا وقبل ان نواصل التحليل يجب ان نلفت الانتباه الى ميزة ينفرد بها حزب البعث العربي الاشتراكي دون غيره من كل الاحزاب، وهي ان اسمه يجسد عقيدته، فالبعث لغويا ودينيا هو عملية الاحياء من الموت، او ما يشبه الموت، ومقابلها في اللغة الانجليزية مصطلح Resurrection والاصل هو أنه مصطلح ديني في الاسلام والمسيحية، وبما ان عملية الانبعاث محاطة بمزيج من التفكير الميتافيزيقي والرغبة الجامحة في العودة للوجود بعد تغييب بالموت، سواء كان موتا حقيقيا او سريريا، فان استخدام هذا الاسم لوصف حزب ثوري يكتسب قيمة خاصة في التربية الحزبية، وفي استيعاب هذه العقيدة، فالقائد المؤسس ميشيل عفلق رحمه الله كان دقيقا في استخدام هذا المصطلح في التعبير عما تحتاج اليه الامة العربية بعد موت سريري استغرق قرونا طويلة القت بأثارها التدميرية على مختلف مناحي الحياة العربية،وابرز ما فيها هو التخلف والوقوع تحت سيطرة امبراطوريات عثمانية وفارسية وقوى استعمارية، لهذا فان مصطلح البعث في حزب البعث العربي الاشتراكي هو بحد ذاته ايديولوجيا، فلا يمكن للبعثي ان يكون بعثيا حقيقيا الا باستيعابها، بتعبير اخر: ان البعثي حتى وان اضطر للوجود خارج الحزب بارادته او رغما عنه يبقى متشبعا بتلك العقيدة التي تمثل طبيعة ثانية، وفقا لمصطلحات علم النفس، حينما يستوعبها بصورة صحيحة، وبالتالي فان التخلي عنها، مهما كانت علاقته بالحزب، هو أمر لا يليق بالبعثي ولا ينسجم مع اسم البعث الذي يحمله. وهذه الحقيقة هي التي جعلت كاتب هذه السطور ينظر بازدراء لأفراد كانوا أعضاء في القيادة القومية والقيادة القطرية للحزب وقفوا ضد الحزب وكتبوا ضده بطريقة لا تختلف عن مواقف اعدائه التقليديين، رغم انني كنت معجب ببعض هؤلاء قبل انحرافهم، كنت وما زلت مقتنعا بأن هذه العقيدة هي العقيدة الوحيدة التي تصلح لانقاذ الامة العربية من ازمتيها المادية والروحية، بل كتبت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانحسار الاحزاب الشيوعية بان عقيدة البعث اصبحت قابلة لتوفير الحل لكل شعب في العالم، فالبعث يناضل من أجل تحقيق العدالة الأرضية للإنسان عبر الاشتراكية لان كل نظام آخر غير الاشتراكية استغلالي ينكر حقوق البشر الأساسية والثانوية. والاشتراكية في البعث، وكما قال القائد المؤسس ميشيل عفلق، هي (دين الحياة وظفر الحياة على الموت فهي بتفجيرها لطاقات الإنسان لا تبقي للموت إلا العظام النخرة واللحم الجاف)، وهذا التعبير بحد ذاته يحل الإشكالية التي تطرحها الاحزاب الاسلاموية ضد الحزب وهي أنه لا يؤمن بالإسلام، فحينما يصف عفلق الاشتراكية بأنها دين الحياه فأنه يعرف بدقة ان هناك دين آخر ليس دينا للحياة فقط بل هو دين للآخرة، وبالتالي اقتصرت الاشتراكية البعثية على الحياة الدنيوية فقط، وابقت الدين بصفته المصدر الرئيس للقيم الروحية والأخلاقية والمبادئ التطبيقية في الحياة أيضا. ومن هذا المنطلق فان حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القومي الاشتراكي الوحيد الذي وفق بين الدين والاشتراكيه واختلف عن الاحزاب الشيوعية التي اخذت منحى الحاديا. وفي هذا المجال كان ميشيل عفلق، وهو مسيحي في فترة تأسيسه للحزب، يثبت مبادئ اساسية انفرد بها حصرا ولم يصل اليها حتى الان، وبعد مرور 77 عاما على تأسيس الحزب، اي تنظيم واي مفكر أسلاموي،فالذي قاله اعجاز لغوي وحل عبقري للعلاقة بين الدين والقومية والاشتراكية، فقد قال ان الاسلام هو ثقافة لكل عربي، مسلما كان او مسيحيا، او من اي ديانة اخرى، اي ان الانسان العربي غير المسلم متشبع بروح الاسلام، وهذه حقيقة ميدانية نراها في العربي المسيحي والصابئي وغيرهما. عبقرية ميشيل عفلق لم تتوقف عند هذا الحد بل انه نحت عبارة بقيت اعجاز لغوي وفكري عندما قال (كان محمد كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا) ان هذه العبارة رغم كل بساطتها ووضوحها لم يستطع احد من كل المفكرين ومؤسسي الاحزاب الدينية ان ينحتوا مثلها وبهذا القدر من الاختصار والدقة اللغوية، اضافة لمضمونها الروحي العميق والذي يجعل الانسان ليس قويا فقط بحقوقه الوطنية والقومية والانسانية في الحياة الدنيوية بل انه يشده بصورة اقوى الى الله وعالم الروح، وهذا ما رايناه بوجه القائد البعثي الشهيد صدام حسين حينما قدم لمحكمة الاحتلال فكان بطلا عظيما يجمع بين القران بين يديه وبين الاشتراكية في وعيه والتي كان هو مهندسها في عراق تجاوز التخلف والامية وصار بلا فقر وبلا جوع، وتقدم علميا وتكنولوجيا مثلما ازدهر روحيا واخلاقيا، وذلك هو جوهر اشتراكية البعث. ولم يتوقف القائد المؤسس ميشيل عفلق عند هذا الحد من الربط بين الاشتراكية والقومية وبين الإسلام، فقد قال جملة أخرى لا تقل أهمية بدقتها الاعجازية عن الفقرة السابقة: (إن العروبة جسد روحه الاسلام)، وبهذا التعبير اوجد ربطا جدليا عضويا لا ينفصل بين العروبة والإسلام، فكما أن الجسد يموت حينما تغادره الروح فإن العروبة بدون الإسلام لا حياة فيها. إذا اكتفينا بهذه الاقتباسات العبقرية من فكر القائد المؤسس ميشيل عفلق، ونحن نمر بذكرى تأسيس الحزب، نكون أمام عقيدة تجمع بين جوهر الدين ومتطلبات الدنيا في آن واحد،مع ميزة تميز البعث بها عن الاحزاب الاسلاموية وهي انه لا يسمح بجر الإسلام الى مقاتل اجتهادات من يطلق عليهم اسم (علماء الدين) والتي هي اجتهادات بشرية تخضع للامزجة وللمصالح وللتربية والانتماءات العرقية، ولهذا فإن الأحزاب الدينية لم تنجح حتى حينما توفرت لها كل شروط النجاح بينما نجح البعث في العراق بتأسيس دولة قوية مهابة توفرت فيها العدالة وتستمد قوتها الروحية من الدين. واذا تذكرنا ان من قال كل تلك الاعجازات اللغوية والعقائدية كان مسيحيا في وقتها، ولم يكن مسلما، ادركنا كم ان البعث عظيم في عقيدته ونجح في إسقاط تهمة الإلحاد التي توجهها تيارات اسلاموية له، والتي هي، بدورها، متخلفة بوعيها وفهمها وتجربتها الميدانية فتعجز عن الإقناع وتتصدى للنهوض الاجتماعي والعلمي والاخلاقي لتخربه كما رأينا طوال العقود الماضية موقفها التخريبي سواء تجاه التجربة الناصرية في مصر، او في التجربة البعثية في العراق. عقب هذا التحليل وهذه المقدمة نتوصل الى الثابت التالي: ان البعثي مهما اختلف مع حزبه لا ينقلب عليه ولا يتخلى عن عقيدته، وينقلنا هذا الثابت الجوهري الى ثابت جوهري اخر هو ان اسم الحزب لا يتبدل أبدا فالبعث هو بعث الامة من رقادها، فاذا غير اسم الحزب ماذا سنختار للحزب من اسم اخر يعبر عن عقيدته مثلما يعبر مصطلح البعث عنها؟ أي اسم اخر يطلق على الحزب سوف يكون التمهيد المقصود او العفوي لدفنه حتما، هنا نرى الفرق بين البعثي والحزبي، فبعد ان قرات هذا المقال في جريدة بريطانية قرأت مقترحا لاحد الحزبيين لحل مشاكل الانقسام في الحزب وهو ان يبدل الحزب اسمه او ان نتخلى عنه وننشئ حزبا بديلا يخلو من الانقسامات!!! وهذا المقترح، رغم انه من حيث الجوهر هروب واضح من مشكلة نتيجة العجز عن حلها يؤكد ان من يتبناه لم يكن في يوم من الايام بعثيا بل كان حزبيا فقط! ان انشاء حزب اخر والتخلي عن اسم حزب البعث العربي الاشتراكي لن يكون حلا باي شكل من الاشكال لان نفس المشاكل التي عانى منها الحزب ستنتقل تلقائيا الى الحزب الجديد، حتى وان لم تظهر في بداية تشكيله، لكنها ستظهر فيما بعد لسبب بسيط وهو ان ما يواجهه الحزب الان ومنذ بدء التأمر عليه في الستينيات ظاهرة بشرية لا صلة لها بعقيدة الحزب من حيث المبدأ، فالبشر تحركهم دوافع عديدة منها الانانية وارتباطهم بجهات معادية، لهذا فان الخلل ليس في عقيدة الحزب وانما في الحزبيين الذين لم يستوعبوها. إن ما يواجهه الحزب يؤكد صواب عقيدته وليس العكس وبالتالي فإن الانشقاقات وإن كان العامل الفردي فيها موجودا إلا أنه ثانوي بينما العامل الخارجي هو الأساس في احداثها وادامتها، ولو استعرضنا الانشقاقات خصوصا منذ ردة 23 شباط عام 1966 في سورية وحتى الآن لرأينا أن العامل الخارجي، أو المخابرات تحديدا، هو العامل الأساس في أحداث الانشقاقات وتوسيعها ومنع انهاءها،وما نواجهه منذ ثلاثه سنوات ونصف في العراق دليل مادي على هذه الحقيقة، فالانقسامات في العراق احدثتها قيادات عليا فيه جندت وسخرت لنشر الفتن داخله، واحباط كل جهد لتوحيد الحزب تحت مختلف الذرائع التي تستخدم لاستمرار عملية اجتثاث البعث من داخله. وبناء على ماتقدم فان الانشقاقات الحالية ليست نهاية المطاف بل هي مرحلة جديدة من مراحل الصراع يخوضها الحزب من أجل مواصلة رسالته في إنقاذ الامة العربية وتوحيدها وبناء الاشتراكية، وقبل هذا وذاك اعادة بناء الانسان ليكون انسانا حقيقيا كما وصفته الديانات السماوية ولكن يعاد بناؤه بعقيدة مركبة دينية ودنيوية جسدها البعث العربي الاشتراكي. إن الانشقاقات في الحزب ظاهرة مرحلية فنحن لسنا نواجه الانشقاقات لأول مرة بل إنها بدأت منذ الستينيات من القرن الماضي، وكلما كبرت الانشقاقات وساد انطباع مضلل بان الحزب يتلاشى، جاء الرد الحاسم ونهض البعث كالعنقاء واصبح اقوى تنظيميا واشد عصفا بالمرتدين، وتجدد شبابه، وهذا النهوض الجامح تطبيق حرفي لمضمون ومعنى كلمة البعث، نحن الآن في مرحلة صراع مصيري لا يمكن بأي حال من الاحوال ان ينتهي بنجاح المتآمرين وهي القوى المعادية للبعث المتمثلة في الغرب الاستعماري والاسرائيليين الشرقية والغربية، والمتسللة الى داخلنا عبر قيادات خائنة رأس حربتها الزمرة التي سطت على اسم القيادة القومية وكشفناها ثم كسرناها. وهذا الصراع يكتسب طابعا متعدد الوجوه: فهو صراع باسم الأمة ومن أجلها وتحقيق وحدتها القومية، وهو صراع من أجل الإنسان لتحقيق العدالة له بتحريره من الجوع والمرض والأمية وضمان عيشه في مجتمع عادل، وهو صراع روحي من أجل تنقية الإنسان من شرور التقية ورواسب الفساد والأنانية والظلم، لذلك فإن عقيدة البعث تستولي على عقل وروح وممارسات البعثي الحقيقي وتصبح طبيعته الثانية والتي لا يستطيع التخلي عنها مهما واجه من ظلم من رفاقه، فيواصل النضال بلا هوادة وعزم لايلين من اجل انقاذ البعث واعادة بنائه وتوحيده كي تنهض الأمة مجددا وتنتصر. الذين يتحدثون بيأس عن انشقاقات الحزب لا يعرفون تاريخ الحزب حتى وإن قرأوا عنه فالقراءة شيء ومعايشة الأحداث شيء مختلف تماما، فقد كنا بعد كل نكبة تواجه الحزب ننطلق بروح التحدي لنعيد البناء من الصفر أحيانا، وننهض بالحزب قويا موحدا،كما حصل في عامي 1963 و 1964، وكما حصل بصورة خطيرة بعد غزو العراق في عام 2003 حيث دمر الحزب تدميرا شبه كامل وبدأ الرفاق في إعادة بنائه من الصفر، وقتها ساد اليأس لدى حزبيين كثر بينما بقي البعثي متمسكا بمقولة (لو بقيت وحدي فسوف اعيد بناء الحزب)، فنهض عظيما قويا في الحالتين في الستينيات وبعد غزو العراق، وتميز بعد نهوضه بأنه كان الاقوى والاكثر صحة حيث ان تلك الضربات التي تعرض لها زادت قوته وعمقت عقيدته ورسخت الإيمان بحتمية انبعاثه مجددا مهما تعرض الى التمزق والخسائر البشرية والمعنوية. إنه البعث ما أن تعتقد بأن الموت قد غيبه حتى تراه أمامك حيا عظيما قويا فاعلا متحديا ومنتصرا، فتحيه للقائد المؤسس ميشيل عفلق الذي قدم للأمة العربية اعظم انجاز عقائدي في تاريخها الحديث، والمجد والخلود لشهداء الحزب الذين ضحوا بحياتهم من اجل ان ينتصر الحزب وتنتصر الأمة بانتصاره.والعز لكل بعثي يرى انه هو وليس غيره اول المضحين من اجل الامة. Almukhtar44@gmail.com 16-4-2024 |
شبكة البصرة |
الخميس 9 شوال 1445 / 18 نيسان 2024 |
يرجى الاشارة الى
شبكة البصرة
عند اعادة النشر او الاقتباس |