بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ |
الضوابط المتحكمة بالخلاف الامريكي الايراني |
شبكة البصرة |
صلاح المختار |
هناك حلقة مفقودة في فهم ممارسة المخابرات الأمريكية الخاصة بالتعامل مع قوى موجودة أصلا ويجب احتوائها، والاحتواء (Containment) في المصطلح الأمريكي يعني السيطرة إلى حد كبير على جهة ما تدريجيا من خلال ممارسة مختلف أساليب التأثير عليه بحيث تصبح محاطة بخيارات أفضلها التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، رغم أنها قد لا تكون في الأصل تريد ذلك، ولكن غلق كافة الأبواب أمامها وترك باب واحد مفتوح فقط يجبرها على الدخول منه، وهذا هو الاحتواء في المفهوم الأمريكي، وهو يشمل قوى او افراد او دول قد لا تكون تابعة للولايات المتحدة بل أحيانا معادية لها،أو قوى أسستها هي بالذات ووضعت حدودا تضمن لها السيطرة التامة عليها في مرحلة من المراحل، ولكنها لاتضمن استمرار هذه السيطرة في مراحل لاحقة، وهذا ينطبق مثلا على علاقة الولايات المتحدة مع (المجاهدين الأفغان) خصوصا مع القاعدة، والتي قامت المخابرات الأمريكية بالتعاون معهما ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، ووفرت لهما كل أنواع الأسلحة والمال، خصوصا من السعودية ودول الخليج العربي لأجل مواصلة الحرب ضد السوفيت، رغم أن المجاهدين الأفغان وخصوصا القاعدة لم تكونا عميلتين لأمريكا، بل وجدتا أن الطريق الوحيد لمحاربة السوفييت هو استغلال الصراع الأمريكي السوفيتي، وهكذا نشأت دوافع مختلفة لدى الطرفين ولكنها تشكل قاسما مشتركا بينهما هو أن كلا منهما يريد الاستفادة من الآخر ولو مرحليا، ونحن نعرف ما حصل بين نهاية السبعينات وبداية القرن الجديد حيث انقلبت العلاقة من تحالف وتعاون إلى صراع مع المجاهدين الأفغان خصوصا مع طالبان. بهذا المعنى فالاحتواء يعني السيطرة على طرف أو أطراف من خلال تحديد خياراته ومنعه من اللجوء إلى خيارات ترفضها أمريكا، ويضطر ذلك الطرف بحكم الحاجة للدعم الأمريكي إلى الموافقة مؤقتا، إن كان يمثل حركة تحرر حقيقية، ثم ينهي ذلك الاحتواء بالتمرد على أمريكا وحمل السلاح ضدها، حالما يتحقق هدفه. وهذا ينطبق على العلاقة مع إسرائيل الشرقية (إيران) حيث أن رجال الدين فيها هم بالأصل صناعة المخابرات البريطانية عندما كانت بريطانيا تستعمر بلاد فارس، فصنعت مجمع رجال الدين في قم ليكون أداة بيدها لاجل السيطرة على البلد، ووسعت بريطانيا نفوذ رجال الدين الإيرانيين الذين يمثلون التشيع الصفوي إلى خارج إيران ليشمل أقطار عربية كثيرة في مقدمتها العراق. وورثت امريكا اسرائيل الشرقية من بريطانيا،فأصبح بيد أمريكا سلاح الحكم الشاهنشاهي وسلاح رجال الدين في قم، وبهذان السلاحان تحكمت، او اثرت، ليس في اسرائيل الشرقية فقط بل في جيرانها العرب باستخدام قدرات النظام الايراني، وقدرات مؤسسة قم. إن هذه المقدمة ضرورية لاستيعاب ما يجري الآن بين الولايات المتحدة الأمريكية واسرائيل الشرقية وهي حالة مزدوجة الطبيعة: ظاهرها صراع سياسي وباطنها توافق ستراتيجي، فأمريكا، وبعد أن توصلت إلى قناعة واضحة بأن كل الأساليب والأدوات التي استخدمت منذ بداية القرن ال20 لتقسيم الأقطار العربية من خلال نشر الفتن الطائفية والعنصرية وغيرها فيها، قد فشلت لسبب واضح وهو أن القوى الغربية معادية أو على الأقل غريبة عن الجماهير العربية عقائديا ودينيا وسياسيا، لذلك كانت الحصانة ضد القوى الغربية هي الأقوى من كل محاولات الغرب اختراق الجماهير، أما إسرائيل الشرقية فإنها تختلف عن الغرب لانها تعرّف كبلد مسلم ويمثل التشيع (الصفوي)، وهاتان الميزتان منحتا اسرائيل الشرقية القدرة على اختراق الشعب العربي لأنها في وعيه الخارجي ليست عدوا كالغرب، بل هي بلد مسلم ومجاور لكثير من الأقطار العربية،هذه الميزات منحت اسرائيل الشرقية نفوذا داخل الأقطار العربية، وهذا ما ظهر جليا حينما نصب الغرب خميني حاكما مستبدا على اسرائيل الشرقية، واخذ يحرك الجاليات الايرانية وانصاره الطائفيين في الاقطار العربية لاجل اثارة الفتن الطائفية والعرقية وتحقق ذلك بنجاح بعد أسقاط الشاه الذي فشل في تحقيق تلك الاهداف بسبب نزعته القومية الفارسية. وهكذا بدأت عملية تقييم أدوات الغرب في المنطقة ودور كل منها والثمن الذي يدفع لها سواء كان ماديا أو حماية عسكرية وغيرها، وظهرت فكرة أن إسرائيل الغربية التي أنشأت أصلا لتكون كما سميت (واحة الغرب في قلب صحراء العرب) تقوم بإجهاض كل محاولات العرب للنهوض وتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي والاجتماعي وإقامة الوحدة العربية، وبما أن إسرائيل جسم غريب ومعاد بالأصل للشعب العربي فقد فشلت واقتصر دورها على عرقلة النهوض العربي عن طريق شن الحروب على العرب لإجهاض التجارب التقدمية، كما في العراق ومصر، وهذه الحروب بالذات عززت العداوة بين العرب وإسرائيل الغربية على عكس حالة إسرائيل الشرقية التي كانت متداخلة مع العرب دينيا وطائفيا. وبمقارنة الدور الإسرائيلي بالدور الإيراني في تحقيق أهداف الغرب المحددة منذ بداية القرن ال20،خصوصا في تقرير بنرمان، ظهر واضحا بأن كل ما قدم لإسرائيل الغربية من مال ضخم جدا ودعم عسكري وسياسي وتكنولوجي لم يحقق اغلب واهم الأهداف الغربية في الوطن العربي، مقابل ذلك فإن نجاحات إسرائيل الشرقية في اختراق العرب شعبيا ونشر الفتن الطائفية على نطاق واسع أكد لأمريكا ولبريطانيا بأن طهران أقدر من تل ابيب بكثير على إلحاق الخراب والدمار بالأقطار العربية، وهنا كانت النقلة النوعية في تحديد من هي الذخيرة الستراتيجية الرئيسة للغرب في المنطقة: هل هي إسرائيل الغربية أم إسرائيل الشرقية؟ الجواب واضح لأن الثمن الذي دفع لإسرائيل الشرقية أقل بكثير من الثمن الذي دفع لإسرائيل الغربية فأصبحت إسرائيل الشرقية الذخيرة الأساسية للغرب. وهنا ظهرت معضلة أن من يقودون اسرائيل الشرقية يستبطنون تطلعات ومطامع إمبراطورية قديمة ومتجذرة نفسيا تتجاوز حدود ما تسمح به الولايات المتحدة لهم بتحقيقه، فأمريكا وبريطانيا تريدان من إسرائيل الشرقية أن تخدم أولا المخطط الغربي وأن يكون الدور الإيراني ضمنه وليس نقيضه او عقبة امام تحقيقه،وبالتالي فإن حدود التوسع الاستعماري الإيراني تقرره أمريكا وبريطانيا وليس قيادات إيرانية، وهذا هو جوهر الصراع بين إسرائيل الشرقية والولايات المتحدة الأمريكية، فبعد أن وفرت أمريكا وبريطانيا وغيرهما لطهران الكثير مما يلزمها لاختراق صفوف العرب بقوة تفتحت شهيتها الإمبراطورية على نطاق واسع، وظهر ذلك في احتلالها للعراق وسوريا ولبنان واليمن، والذي تم بدعم أمريكي طبعا ولكن بشروط واضحة وهي أن هذا التوسع الإقليمي يجب أن يكون مؤطرا ضمن المصالح الغربية والتي تهددها المطامع الفارسية. كان طبيعيا أن تبدأ لعبة احتواء طهران مثلما حصل مع طالبان وغيرها،فرغم ثبات قاعدة أن إسرائيل الشرقية هي الذخيرة الستراتيجية الأهم في المنطقة وليست إسرائيل الغربية،والتي صارت عبئا ستراتيجيا على الغرب، فإن ذلك يتطلب وضعها ضمن مناخ ضاغط متعدد الأشكال ولزمن طويل بحيث تتم السيطرة على النزعات الإمبراطورية الفارسية،ويتوج ذلك باقتناع القيادة الإيرانية بأن الخيار الوحيد المتاح لها هو أن تمارس النفوذ الإقليمي ضمن المخطط الغربي وليس على حسابه. وخير من عبر عن هذه الفكرة هي نظرية (الاحتواء المزدوج) التي تبنتها ادارة بيل كلينتون وهدفها احتواء كلا من العراق وإسرائيل الشرقية، فميزت بينهما بدقة بتأكيد أنه (في حين أن العراق لن يتم احتوائه بالحوار والوسائل السلمية بل بالحرب فإن إيران يمكن احتوائها بالوسائل السلمية والضغوط الاقتصادية والسياسية). وتجسد ذلك في مواقف كل الإدارات الأمريكية تجاه إسرائيل الشرقية والعراق، فالعراق تم غزوه وتدميره باختلاق الأكاذيب وبتحالف دولي قادته أمريكا في عام 2003،وقبلها شنت عليه الحرب في عام 1991 تحت غطاء (تحرير) الكويت! ولكن مقابل ذلك فإن اسرائيل الشرقية لم تتعرض حتى الآن لحرب من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى مؤخرا ورغم كل ما قامت به من استفزازات وعمليات عسكرية عن طريق حزب الله والحوثيين في اليمن والمليشيات الشعوبية في العراق، وإن كانت محدودة إلا أنها كانت تشكل ضغطا مباشرا على كل من إسرائيل الغربية وأمريكا لزيادة حصة إيران في النفوذ الإقليمي وعدم تقليم أظافرها التي وصلت إلى احتلال أربعة أقطار عربية وتريد إكمال ذلك باحتلال أقطار أخرى خصوصا دول الخليج العربي والسعودية. فمن يريد أن يعرف السر وراء عدم شن الحرب على إسرائيل الشرقية رغم اعتراف أمريكا وإسرائيل الغربية رسميا بأنها هي التي وقفت وراء عملية طوفان الأقصى من ناحية التسليح طوال السنوات الماضية، بل إنها تعترف بأنها تدعم حماس وحزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن والميليشيات الشعوبية في العراق، وجرأة إسرائيل الشرقية في كل ذلك لا تنبع من قدرتها العسكرية بل من معرفتها التامة بأن أمريكا لن تفرط فيها على المستوى الاستراتيجي، لانها الذخيرة الستراتيجية الأهم لها في المنطقة، إذ يمكن تحقيق ذلك من خلال الضغوطات عليها، خصوصا بتصفية كثير من قادة ميليشياتها في العراق أولا، وبدأت هذه العملية بشن أكثر من 80 عملية تصفية جسدية لقادة الميليشيات في العراق إضافة لقتل قادة في الحرس الثوري موجودون في سوريا وفي العراق، وكل ذلك تم خارج نطاق الحدود الجغرافية لإسرائيل الشرقية لأن العمليات الأمريكية ليس هدفها الدخول في حرب مع طهران بل لأجل إخضاعها عن طريق هذه العمليات، فتبنت هدف تجريدها من بعض قوتها الإقليمية كي تخضع للغرب، وهذا ما يجري الآن في العراق بشكل واضح وادى إلى نتائج إيجابية، حيث أن طهران وبعد أن أدركت خطورة العمليات الأمريكية ضد ميليشياتها والتي تهدد بتصفيتها ليس على مستوى القادة بل إذا استمر الصراع بين الطرفين حول مناطق النفوذ ستضطر أمريكا إلى النزول في التصفيات من القادة إلى القواعد. إنها لعبة أن تضع فأرا في حلقة فيها أبواب تغلقها وتفتحها كلما تريد، وتفتح له باب ولكن ليخرج من حلقة إلى حلقة أخرى أكثر اتساعا ولكنها تبقى مقيدة للفأر في حركته، وهذه هي من أبرز أساليب الولايات المتحدة في تكييف سلوك من تريد من الدول والأفراد،حتى ولو لمرحلة محددة، وهذا هو المهم لأن أمريكا لا تريد الاحتلال كهدف بل سيطرتها على اقتصاد البلد هو هدف امريكا، فإذا تحقق لا تحتاج لقتل العدو ولا للاستمرار في الحرب ضده بل تتعامل معه على أنه جزء من التركيبة السياسية في ذلك البلد. وما سبق يؤكد ويوضح بنفس الوقت أن عدم توسيع إسرائيل الشرقية لنطاق الحرب على غزة بإصدار الأوامر لحزب الله ولغيره بالاكتفاء بما سمي بقواعد الاشتباك، أي أن تحصر الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل في المناطق الحدودية كما كانت طوال العقود الماضية، بينما الحوثيون والحشد الشعوبي في العراق يقومان بعمليات هي أقرب إلى الألعاب النارية التي لا تؤثر على الصراع في غزة،بل ان أعمال الحوثيين مطلوبة من الغرب لأجل إيجاد المبرر للسيطرة على المقتربات الستراتيجية البحرية خصوصا مضيق باب المندب وغيره، ومن هناك تبدأ عملية الضغط على الصين وروسيا وليس على اسرائيل الشرقية، ناهيك عن ان تلك العمليات لها هدف خطير اخر وهو منح هذه الميليشيات شرف انها مقاومة لامريكا واسرائيل الغربية، وهو شرف لاتستحقه لكن اللعبة المعقدة تفرضه خصوصا لاكمال عزل المقاومة الحقيقية والقوى الوطنية. ونتيجة الموقف الإيراني القاطع والحاسم بعدم توسيع الحرب أصيبت طوفان الأقصى بضربة قاسية لأنها انطلقت بالأصل، وفقا لخطة كتائب القسام، لتكون خطوة على طريق تحرير فلسطين، وتخيلوا لو أن حزب الله وحده دخل الحرب بكافة قدراته العسكرية ماذا كان سيحصل؟ دون أدنى شك ستتحقق أهداف كبرى لفلسطين وستخسر إسرائيل كثيرا جدا، وذلك يحدث انقلابا ستراتيجيا في المنطقة كلها هو الاهم منذ اغتصاب فلسطين، وهذا ما لا تريده أمريكا مثلما لا تريده اسرائيل الشرقية لأن الانتصار في فلسطين سوف يوقظ ما تم تنويمه وتخديره، وهو النضال الوطني والقومي العربي، فالنصر في غزة يعني نهوض الأمة العربية مجددا وذلك مرفوض بقوة وهو قاسم مشترك بين الغرب وإسرائيل الشرقية، لان اي نهوض قومي عربي جديد يقلب توازنات القوى الستراتيجية مرة أخرى مثلما حصل بعد تزعم عبد الناصر في مصر والبعث في العراق. Almukhtar44@gmail.com 23-2-2024 |
شبكة البصرة |
الاحد 15 شعبان 1445 / 25 شباط 2024 |
يرجى الاشارة الى
شبكة البصرة
عند اعادة النشر او الاقتباس |